جريدة الجرائد

امنعوا الابتعاث!

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

حمزة قبلان المزيني

نشرت "الوطن" العام الماضي مقالا لي بعنوان "حديث الدورات" عرضت فيه للتوجيهات التي ألقيت على المبتعثين والمبتعثات في دورة تشرف عليها وزارة التعليم العالي. وأشرت فيه إلى بعض السلبيات التي ربما تنشأ عن بعض تلك التوجيهات لبعدها عن هموم المبتعثين، وإمكان أن تكون سببا في شحنهم نفسيا ضد المجتمعات التي سيبتعثون إليها.
وكنت أظن أن تلك الدورة حدث استثنائي بعد أن ألغيت الدورة التي كانت تعقد للمبتعثين في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ثم أوقفت إما لقلة عددهم أو لعدم جدواها. لكن الدورة الأخيرة استمرت ويلزم بحضورها المبتعثون والمبتعثات جميعا.
وكان الزميل الدكتور عبدالله الفوزان قد عرض في "الوطن"، 3/1/1429 لبعض ما ورد في محاضرة ألقاها سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ، المفتي العام للمملكة في هذه الدورة.
وأود أن أعرض هنا للموضوع نفسه لانطباق الملحوظات في"حديث الدورات" على المحاضرات التي ألقيت فيها.
وقد تضمنت محاضرة سماحة المفتي بعض التوجيهات السديدة مثل وصيته للمبتعثين بـ"... الحلم وعدم الغضب عند تعرضهم لسب الدين والرسول صلى الله عليه وسلم، والاكتفاء بإظهار الصورة الحقيقية للإسلام"، وتحذيرهم"... من الانسياق وراء التقليد... والبعد عن الفجور والخمور".
وتمثل محاضرة سماحته تقدما على ما ورد في محاضرات العام الماضي، إذ جوَّز فيها "حضور احتفال أعياد غير المسلمين"، بـ"ضوابط" تتمثل في أن يعمل المبتعثون على إيضاح "... شيء من العقيدة والأخلاق النبيلة للإسلام... ، لكنه حذر من"...حضور تلك الأعياد في سكون وإنصات وهو ما يحول الحكم إلى عدم الجواز".
ولما كان المتوقع أن تقام الاحتفالات بتلك "الأعياد" في الكنائس، فإن هذا يعني تجويزه دخولهم لها.
لكن ما يلفت النظر توجيهُه بألا يحضروا تلك الاحتفالات "... في سكون وإنصات"، وإلا حرُم حضورها. ويعني هذا أن سماحته يطلب منهم أن "يُنكروا" على "غير المسلمين" ما يمارسونه من طقوس في احتفالاتهم أو ما يرافق تلك الاحتفالات من ممارسات أخرى.
لكن المؤكد أن "إنكار" المبتعثين لتلك الممارسات سيكون سببا لإفساد جو احتفال "غير المسلمين" بـ"أعيادهم" وسيكون مثيرا للجدل والخصام والتنازع.
وليس من الواضح كيف يمكن للمبتعثين بمثل هذه التصرفات أن يوضحوا شيئا من "العقيدة والأخلاق الإسلامية النبيلة".
وتضمنت تلك المحاضرة بعض التوجيهات التي ربما تعرِّض المبتعثين لبعض المشكلات. ومنها تحريم سماحته "الاختلاط" وعدم اصطحاب المبتعثات محارم لهن.
ويمثل هذا حرجا كبيرا للمبتعثين والمبتعثات لأن "الاختلاط على مقاعد الدراسة" في المستوى الجامعي هو المعمول به عالميا، حتى في دول الخليج العربية المجاورة. وإذا ما اتبع المبتعثون والمبتعثات هذا التوجيه حرفيا فسيخلق لهم مشكلات عويصة مع الجامعات والمعاهد التي سيدرسون فيها. ذلك أنهم سيطالبونها بتخصيص فصول، وربما مبان، منفصلة للذكور وأخرى للإناث، وهذا مستحيل. وهنا يقع الطلاب والطالبات بين خيارين: إما الاستمرار في البعثة مرتكبين لمحرم، أو أن يعودوا إلى المملكة اتقاء للحرام.
كما حذر سماحته من الإقامة مع الأسرة غير المسلمة "خشية على المبتعث من الوقوع في المحظور".
والمحصلة المؤكدة لهذه التوجيهات أنها لن تساعد المبتعثين والمبتعثات على الاندماج، الضروري، في المجتمعات التي سيدرسون فيها.
وتضمنت بعض المحاضرات الأخرى بعض التوجيهات المقبولة، كما ورد في تقرير شامل عنها نشرته "الوطن" 2/1/1429. لكن بعضها كان يتخوف من الابتعاث ويحذر منه. ومن ذلك قول أحد المحاضرين: "إن الابتعاث حاجة ولا بد أن تقف مع كلمة (حاجة) ذلك أن الحاجة تعني افتقار البلد للتخصص ونقل الخبرة إلى مكان افتقادها، أما فتح الباب على مصراعيه ونقل الطاقات إلى بلدان أخرى والحماسة والاندفاع للابتعاث من أجل الابتعاث فإنني لست معه بل أتوجس من عاقبته".
وربما كشف هذا الموقفَ الحقيقي لبعض الجهات من الابتعاث، وهو ما كنت لحظتُه في مقال "حديث الدورات".
ولتقويم الفائدة من هذه الدورات ينبغي أن نقارن بين نتائج البعثات التي تعرضتْ لها في السنوات الماضية والبعثات التي لم تتعرض.
وتتطلب المقارنة الصحيحة استطلاع آراء الملحقين الثقافيين والموظفين في الملحقيات الثقافية، في الولايات المتحدة خاصة، الذين كانوا يباشرون مشكلات المبتعثين ويطلعون عن قرب على مدى اندماجهم أو عدم اندماجهم مع المجتمعات التي ابتعثوا إليها.
ويمكن الإشارة إلى بعض ما قاله لي أحد الزملاء، وكان يعمل ملحقا ثقافيا في إحدى الملحقيات الثفافية السعودية في الولايات المتحدة. وكان يشكو مر الشكوى من اندفاع كثير من المبتعثين إلى الانخراط في الحركات "الإسلامية" التي كانت تعمل آنذاك بحرية في الولايات المتحدة. وكان يشير إلى انصراف عدد لا بأس به من هؤلاء الطلاب إلى النشاط الدعوي المؤدلج بدلا من متابعة دراساتهم.
وكان بعض الذين وقعوا في مشكلات قانونية في الولايات المتحدة من المنتمين إلى تلك الحركات "الدعوية". وكان هؤلاء جميعا قد التحقوا بالدورات التي كانت تقام للمبتعثين وكانوا يتلقون جرعات عالية من الحض على الالتحاق بالنشاط الدعوي وبجرعات أعلى من الحث على كره المجتمعات التي سيبتعثون إليها.
ويمكن أن نقارن هذه النتائج بحال المبتعثين الذين ابتعثوا، خاصة في السبعينيات الميلادية من القرن الميلادي الماضي، من غير أن يتعرضوا لهذه الدورات. ويمكن التحقق من دقة ملاحظاتي عنهم من استعراض ذلك الجيل الذي أدار الدولة طوال السنوات الثلاثين الماضية.
وكنت عرضت في "حديث الدورات" لتجارب بعض المبتعثين في السكن مع أسر غير مسلمة. وبينت أن السكن معها واحد من أغنى التجارب التي استفاد منها من مروا بها. ولا يزال بعضهم على صلة بتلك الأسر على الرغم من مرور السنين.
ولم أتعرض أنا، في الأقل، ولا من أعرف من الزملاء الذين مروا بتلك التجربة، إلى الوقوع في أي محظور ديني أو أخلاقي نتيجة لها. بل إنها كانت فترة مهمة للتعرف على ثقافة المجتمع الجديد وطريقة حياته عن قرب، وهو ما يسهل على المبتعث التعامل مع ذلك المجتمع بعد أن يسكن مستقلا.
ومن أهم العوامل التي أسهمت في نجاح اندماج المبتعثين الأوائل أن مناهج اللغة الإنجليزية في المرحلة الثانوية وفي الجامعة كانت في أغلبها هي المناهج التي تدرَّس في الولايات المتحدة وبريطانيا أو تماثلها. وكانت تلك المناهج تتحدث عن المجتمع الأمريكي والبريطاني بعاداته وتقاليده وممارساته الدينية. بل كانت تتضمن الحديث عن بعض العادات التي تتصادم مع تقاليدنا. ولم يكن أحد يستنكر تلك المناهج لأنه كان ينظر إليها على أنه من الطبيعي لها أن تصور المجتمعات التي تتكلم الإنجليزية.
وأذكر أنني درست وزملائي، حين كنا معيدين وكنا في انتظار الابتعاث، كتاب الكاتب الفرنسي الشهير توكفيل عن المجتمع الأمريكي الذي يحلل العوامل التي أثرت فيه تاريخيا ويتحدث عن كثير من مُثُله وقيمه السياسية والثقافية والاجتماعية.
ومن المهم أن أشير هنا إلى أن مناهجنا، الدينية خاصة، لم تكن محملة بالدعوة إلى المفاصلة مع المختلفين عنا.
لذلك لم يُصَب كثير من المبتعثين الأوائل بما يسمى بـ"الصدمة الثقافية". وكانت الأغلبية منهم تتميز بانفتاحها على الآخرين وجرأتها في التعامل الطبيعي معهم، من غير فرض لثقافتها أو التظاهر بها أو التفاخر.
وكان بعضهم يمارسون ما يمكن أن يستغربه أكثر الناس اليوم. ومنها أن بعض المبتعثين إلى إحدى الجامعات البريطانية كانوا يستأجرون أحد "المراقص" ليصلوا فيه الجمعة! وكانت بعض الكنائس تسمح لبعضهم أن يصلوا الجمعة في ركن منها!
ومن أهم النشاطات في فترة دراسة اللغة الإنجليزية تلك الرحلات الممتعة لبعض الأماكن التاريخية، ومن أشهرها الكنائس التاريخية بمعمارها الفني الراقي وتاريخها الممتد لقرون. وكان المبتعثون يتعرفون على تلك الأماكن من غير أن يخطر لهم أن أحدا يحاول أن يحرفهم عن الإسلام.
وكانوا يدعون أساتذتهم وزملاءهم إلى حفلات يقدمون فيها الأكلات السعودية، ومنها "الكبسة" التي اكتسبت شهرة تكاد تكون عالمية!
وقد رجع ذلك الجيل وهو مسلم كما ذهب، وحقق معدلات عالية من الإنجازات الأكاديمية في الجامعات التي درس فيها وترك وراءه سمعة ممتازة.
وربما استخلص المطلع على أكثر التوجيهات التي ألقيت في هذه الدورات أن التحذيرات التي تغلب عليها تمثل عائقا في سبيل كثير من الطلاب الذين يجب عليهم لكي ينجحوا في دراساتهم أن يحققوا قدرا عاليا من الاندماج والطمأنينة النفسية. بل إنها تبدو كأنها دعوة إلى منع الابتعاث!
والبديل لما يلقى في هذا الدورات أن يُعرَّف الطالب بالمجتمعات التي سيبتعث إليها بصورة موضوعية وأن يوجه ليتفهمها كما هي عليه وألا يشحن نفسيا ضد معتقداتها وعاداتها وأن يزود بما يعزز ثقته بنفسه لكي يستطيع التعامل مع الظواهر التي تختلف عما عهده في مجتمعه.
وختاما أقول إنه لا يبدو أن المبتعثين اليوم بحاجة لأية توجيهات. ذلك أنهم أكثر معرفة بالمجتمعات الغربية لأنهم أكثر اطلاعا عليها نتيجة لبراعتهم في التعامل مع الثورة الإعلامية المعاصرة.



التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
كنا استاذي صوفية!!!
الذيابي -

سلمت يمينك يا من اخطط هذا الابداع في تشخيص حالا بكينا منه..يبدو ان بعض شيوخنا لم يفهموا الدرس جيدا وان زمان ;الشحن; ضد الغير بمن فيهم المسلمين الاخرين وابناء البلد الاخرين كالجعفرية والشوافع والاسماعيلية قد ولى ولم يعد مقبولا لا من اغلب الشعب ولا من سيدي ابو متعب...بك استاذي ومن هم في منزلتك ترتقي الاوطان..اكتب وافضح ولا يهمك القافلة تسير..

كلامة وجهة نظرة
ابافهد -

اتمنى ان يعي مجتمعنا ان ما يقولة المفتي لا يمثل سوى وجهة نظرة الشخصية تجاة هذه القضايا, اليوم الذي نؤمن ونقتنع بهذه المفاهيم ونستخدم عقولنا اولا سنكون امة متحضرة.