جريدة الجرائد

الاحتلال الناعم

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

خيري منصور

كما أن هناك قوة ناعمة، تتمثل وتتجلى في النفوذ الحضاري ودبلوماسية ناعمة تسري برشاقة في التضاريس السياسية الأشبه بالأواني المستطرقة، فإن هناك أيضاً احتلالاً ناعماً، لا يتمظهر بالأسلحة والثكنات وقد لا يعمد إلى تعيين مندوب سام أو حاكم إداري على غرار بريمر في العراق أو اللورد كرومر من قبل في مصر والسودان.

الاحتلال الناعم أفعواني في ملمسه وتعرج الطريق الذي يسلكه، لأنه مخاتل ومراوغ ويرتدي أقنعة كتلك التي يرتديها الصيادون كي يوقعوا الفريسة في حبائلهم.

وقد يكون مصطلح الاستعمار الجديد الذي كتب عنه مثقفون غربيون في أربعينات القرن الماضي منهم سارتر هو المرادف الحقيقي لما أسميه الاحتلال الناعم، والولايات المتحدة التي جسدت في الحرب العالمية الثانية دور المحرر والمخلص لأوروبا من التمدد النازي، رفعت شعاراً جاذباً، سرعان ما تحول إلى كمين أو فخ هو مرحلة ما بعد الاستعمار، لكن واشنطن سرعان ما قلبت ظهر المجن لشعاراتها ولكل ما روجت له من ثقافة سياسية أفرزتها الثورة ومهد لها رواد من الشعراء والمفكرين ورجال الإصلاح. فأمريكا الراهنة لا صلة لها بأطروحات امرسون أو ثورو أو حتى الشاعر والت ويتمان، لأنها أصدرت الاستعمار الكلاسيكي في طبعة جديدة مزخرفة ومنقحة، وعدد ضحاياها قد يكون أضعاف عدد ضحايا الكولونيالية خلال قرن، بسبب تطور الأسلحة الإبادية، والسرعة في إنجاز الاحتلال، وما سمي قوات التدخل السريع العابرة للقارات والقوميات وكل ما له علاقة بالسيادة في عالم أرادت له الامبراطورية الأخيرة أن يتحول إلى زنزانة بسعة كوكب. وقد يكون الاحتلال المباشر أهون من الاحتلال الناعم، لأنه مفهوم ومرئي بالعين المجردة ويستنفر المشاعر القومية عبر الاحتكاك اليومي، بعكس الاحتلال الناعم الذي لايرى إلا بالمجهر ولا تكون انتهاكاته مادية، بل معنوية وثقافية.

الاحتلال الناعم يقضم الهوية ويفترسها ببطء كي لا يصاب بالاختناق أو الغثيان، لهذا فهو يعمد إلى وسائل تبدو سلمية، منها التبشير بالحريات ودمقرطة شعوب يزعم أن مفهوم المواطنة لم يتبلور فيها وأن تشكلها باترياركي (أبوي) وأنماط إنتاجها تكرس التخلف!

إن أطروحات الاحتلال الناعم جاذبة لمن يختلط عليهم الأمر فلا يفرقون بين الماء والسراب وبين ضوء الشمس وإضاءة الكهرباء، وثمة اخصائيون مهرة، وحاذقون في الصيد حتى لو كان في المستنقعات، لهذا يكذبون عندما يتحدثون عن تجفيف هذه المستنقعات لأنهم لو لم يجدوها لاخترعوها، فهي الذرائع والمبررات المعلنة، وحقيقة الأمر أن وراء الأكمات ما هو أبعد وأعمق من كل ما يروج له من ثقافة الاحتلال الناعم.

إن العولمة في بعدها الانتهاكي النازع إلى إذابة هويات، وإعادة إنتاج شعوب وحضارات هي الإفراز العضوي للاحتلال الناعم.

وحسب تعبير لمثقف فرنسي أعلن العصيان على العولمة، فإن هذه الكلمة الناعمة هي القناع الذي تتخفى وراءه أمركة العالم، ومصطلح الأمركة، كان روزفلت قد أطلقه عندما قال إن قدر بلاده هو أمركة هذا الكوكب. أما أساليب الاحتلال الناعم فهي الكتاب والصحيفة والمحطة الفضائية وليس الدبابة أو الصاروخ، ومن هذه الأساليب أيضاً تقديم الإغاثة وتبني وسطاء مهمتهم أن يتعهدوا تسويق مفاهيم مضادة لصالح بلدانهم، وأحياناً يعهد إليهم بمهمة التجهيل، وهناك مئات وربما آلاف الأكاديميات المتخصصة في تضليل الرأي العام، وإحراف البصر عن قضايا حيوية ومصيرية من خلال استبدالها بأسئلة وقضايا ليس لها أي جذر في الواقع المحلي.


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف