جريدة الجرائد

إذا كنت تصدّق كل ما تقرأ لا تقرأ! (مثل ياباني)

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

فيصل القاسم

لم يشهد التاريخ زمناً أصبح فيه النشر والقراءة متاحين لعموم البشر مثل عصر ما أسماه نائب الرئيس الأمريكي الأسبق (آل غور) بـعصر "السوبر هاي واي"، أي عصر الانترنت الذي حول الجميع إلى ناشرين، وذلك بمجرد الحصول على جهاز كمبيوتر، واشتراك الكتروني، بعدما كان نشر سطرين في صحيفة، بالنسبة للإنسان العادي، أقرب إلى المستحيل. وبما أن هناك تناسباً طردياً بين حرية النشر والقراءة، فقد ارتفعت وتيرة الأخيرة بشكل كبير الكترونياً.

لا شك أن النشر الالكتروني والإبحار على أمواج الشبكة العنكبوتية يشكل سابقة أطارت صواب المتحكمين بانسياب المعلومات في العالم، حتى الديمقراطيين منهم، وفتحت أفقاً لم يكن ليخطر ببالنا حتى في الأحلام. لكن هذا الفتح الإعلامي العملاق يجب ألا ينفلت من عقاله، وألا يـُترك له الحبل على الغارب كي لا يتحول إلى وبال على البشرية. ولو كان الفيلسوف الإغريقي سقراط حياً لربما طالب بمنع الغوغاء والرعاع والبسطاء من النشر الالكتروني، تماماً كما دعا إلى منعهم من الانخراط في العملية الديمقراطية، كونهم، برأيه، أناساً غير جديرين بالديمقراطية لانحدار مستواهم الثقافي والفكري، وكون الديمقراطية، حسب فهمه، من مهام علية القوم من مثقفين ومفكرين وفلاسفة. وكذلك فعل من بعده سبينوزا.

لا شك أن نظرة سقراط وسبينوزا إلى العوام فيها الكثير من الارستقراطية المقيتة التي يرفضها الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، ويجب أن يرفضها الديمقراطيون الحقيقيون. لكن في الآن ذاته، لا بد من ضبط وسائل التعبير، خاصة المفتوح منه، كالانترنت، وعدم تركه لمن هبَّ ودبَّ ليعبث به كيفما يشاء، ناهيك عن أن الإعلام والتنوير هما أصلاً من مهام المثقفين والعالمين،"فلا يمكن للأعمى أن يقود الأعمى، ولا للساقط أن يوجه الناس"، كما تقول آنا بطلة إحدى روايات دانيال ديفو.

ما العمل إذن لترشيد هذا البحر الالكتروني المتلاطم الأمواج؟ الجواب بسيط، فعلى الديمقراطية أن تكشـّر عن أنيابها لضبط هذا العالم الإعلامي الرهيب، كما فعلت دائماً مع وسائل الإعلام المكتوبة. فمن أجمل ما أنتجته الديمقراطية هو القانون الصارم وتطبيقه بإحكام. فالديمقراطية صنو النظام، وليس الانفلات، كما يظن بعض أتباع نظرية الفوضوية (Anarchism ) والحرية المنفلتة. فكلنا يعرف أن هناك في ربوع الديمقراطية الغربية الغراء قوانين صارمة ورائعة لمكافحة القذف والتشهير وتشويه السمعة والاعتداء على كرامات الناس والشعوب وضبط الإعلام قانونياً. وكم اضطرت بعض الصحف أن تدفع مبالغ خيالية للذين شهّرت بهم، وأساءت إلى سمعتهم. وأعتقد أنه آن الأوان لأن يتفتق ذهن الديمقراطية، وحتى الديكتاتورية عن ضوابط وقوانين جديدة للتحكم بالنشر الالكتروني وترشيده كي لا تتحول الانترنت إلى مزبلة كبيرة مترامية الأطراف يرمي فيها الرعاع والغوغاء والجهلة والمتطرفون والمتعصبون والإرهابيون والساقطون وقراصنة الكلام غثاءهم وزبالتهم وقاذوراتهم وأفكارهم المسرطنة والمريضة دون حسيب أو رقيب.

لقد كان البعض يلوم حكومة الولايات المتحدة لإغلاقها بعض مواقع الانترنت ومصادرة محتوياتها دون سابق إنذار. لكن مع مرور الزمن سيعيد الكثيرون النظر في موقفهم من الإجراءات الأمريكية. فما المانع أن تخترق السلطات الأمريكية بعض المواقع الإرهابية والعقائدية الفاشية، وتمسحها عن وجه الشبكة العنكبوتية؟ إنه تصرف مطلوب. لكن كان يُفضل أن تتم ملاحقة أصحاب تلك المواقع الساقطة قضائياً على الطريقة الديمقراطية، ومحاسبة المسؤولين عنها ليكونوا عبرة لمن يستخدم هذا الفتح الإعلامي الرائع لأغراض دنيئة، ويسيء من خلاله لملايين البشر، ويعكر صفوهم، ويفسد ذائقتهم.

إن منطقتنا العربية تعج بمواقع عقائدية وتشهيرية متطرفة وغاية في الخطورة. ولا أدري كيف تسمح بها الأنظمة العربية التي لا تستطيع أحياناً تحمل نقد بسيط، فكيف إذن تترك الحبل على غاربه لمواقع لا تنشر سوى التطرف والتكفير والتخوين والإرهاب الفكري والديني، وتمارس أبشع أنواع العنصرية والفاشية العقدية بحق كل من يخالفها التوجه أو العقيدة. لا أدري كيف يسمح أثير الانترنت لمثل تلك المواقع التي لا تقل سوءاً عن المواقع الإباحية الرخيصة أن تلوث موجاته بسفالتها وقذارتها!

أليس حرياً بالدول العربية والغربية أن تسن قوانين صارمة لوقف مثل تلك المواقع المارقة ومنع انتشارها، وملاحقة المسؤولين عنها، خاصة أن طرق مراقبة الانترنت أصبحت سهلة. فللذين يظنون أن بإمكانهم النشر والإساءة للناس بأسماء مستعارة نقول إن هناك برامج متوافرة على الشبكة العنكبوتية يمكن لها أن تخبرك من أي جهاز خرج هذا الإيميل أو ذاك، أو هذه المشاركة أو تلك، لا بل تحدد لك خطوط الطول والعرض لتلك المنطقة التي يقطنها صاحب الجهاز عبر الأقمار الصناعية. ولا ننسى أن بعض الدول ضبطت مشكورة بعض المسيئين، ولقنتهم درساً يجب أن يكون عبرة لغيرهم.

فكل من يعتقد أنه غير مُراقب وهو يتصفح الانترنت يجب أن يفكر ثانية، خاصة أن بعض الدول اشترى أجهزة كمبيوتر عملاقة بملايين الدولارات لمراقبة النشر الالكتروني وعدم تحويل الشبكة إلى مكب نفايات سياسية وأخلاقية واجتماعية. فأين القوانين التي تحمي المواطنين وتضبط عملية النشر الالكتروني؟ إننا بأمس الحاجة إليها، البارحة قبل اليوم، خاصة بعد أن بدأ عدد مرتادي الانترنت في العالم العربي يتضاعف شهراً بعد شهر.

لقد آن الأوان لأن تأخذ القوانين مجراها بحق الذين يسيئون استغلال هذا الاكتشاف التواصلي التاريخي. ولابد للمجتمع المدني أن يشكل هيئات وجماعات ضغط لحماية المجتمع وأفراده من قراصنة الانترنت ومنتهكي حرمتها.
وكم كان صديقنا وزير الاتصالات عمرو سالم محقاً ذات يوم عندما نادى بأن يتوقف جبناء الانترنت عن الاختباء وراء أسماء مستعارة، وضرورة الجهر بأسمائهم الحقيقية وهم يسيئون لهذا الشخص أو ذاك، أو ينشرون أحقادهم وترهاتهم وقذراتهم على صفحات الشبكة العالمية.

بالطبع لا أحد يريد أن يفرمل هذا الفتح الإعلامي العظيم المسمى الانترنت، ويضع العصي في عجلاته، لكن، في الوقت ذاته، يجب أن تنسحب الشرعة الديمقراطية الذهبية: " حريتي تتوقف عندما تبدأ حرية الآخرين" على النشر الالكتروني، كما انسحبت من قبل على كل الحريات الأخرى. فهل يُعقل مثلاً أن تقوم بعض المواقع بالإمعان في الإساءة إلى جماعات وطوائف وأفراد يُعد أتباعها بالملايين بكل دنائة وبذائة؟ هل يُعقل أن تقوم بعض المواقع بتلفيق قصص وحكايات وفبركات خيالية كاذبة ومسيئة عن هذه الجهة أو تلك، أو عن هذا الشخص أو ذاك بكل صفاقة وخسة دون حساب أو عقاب؟

لا شك أن الكثير من مرتادي الشبكة العنكبوتية الواعيين يضحكون ملء أشدائقهم بكل سخرية وتهكم وهم يقرأون بعض القصص أو الصور الالكترونية المفبركة والملفقة من رأسها حتى أخمص قدميها عن هذه القضية أو تلك، أو هذا الإنسان أو ذاك. وكم كان صديقي الدكتور زياد الحكيم مصيباً عندما كان يطلب منا أن نحمل في جيوبنا آلات حاسبة كل الوقت ونحن نطالع الانترنت. فسألناه لماذا؟ فأجاب: كي تقسّموا كل ما تقرأوه على عشرة، وربما مائة، وأحياناً ألف، وأحياناً أخرى على مليون، حتى لو حصلنا على نتيجة صفرية. ففي بعض الأحيان سنجد أن ما قرأناه في بعض المواقع ليس أكثر من مجرد ترّهات لا أساس لها مطلقاً، ولا صحة، ولا معنى، "ولا فاكهة ولا مازية"، بعبارات غوار الطوشي.

وإذا كانت نصيحة زميلنا الدكتور زياد لا تفي بالغرض، فأحيلكم إلى المثل الياباني الشهير الذي يقول:" إذا كنت تصدق كل ما تقرأ فيجب أن تتوقف عن القراءة فوراً"، فما بالك إذا كان ما تقرأه منشوراً الكترونياً!!

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
رأي مغربي
رضوان -

فعلا من اللازم ان تكون هناك مراقبة على بعض المواقع التي تنشر الوقاحة الفكرية والجنسية والتكفيرية . والواقع يا دكتور ان هناك غزو لمواقع التيارات الفكرية الجوفاء التي تهاجم توابت الامة والدين ولكل من له علاقة بالعروبة والاسلام

هام
كريم -

مقال هام وموضوعي للدكتور فيصل القاسم كثر الله من امثالك لقد أصبت الهدف

راي إنساني
جميل ججو -

فعلا, يجب ان تكون هنالك مراقبة على كل مواقع التطرف والارهاب التي تدعو الى القتل والذبح والتطرف وسب وشتم الانبياء والاديان والمعتقدات. وكل من يحرض على هذه الجرائم حيث يتناسى بعضهم عمدا ما يفعله صبايا التطرف بالمغرب حيث يحاولون زعزعة إستقرار المغرب من خلال الافعال الارهابية الاجرامية المتطرفة التي لا يعرفون غيرها, إبدؤوا بانفسكم اولا.

الانترنت العربي
مازن -

لا تنسى يا استاذ فيصل ان استخدام الانترنت في العالم العربي يختلف بشكل كبير عن اوربا و امريكا, في عالمنا العربي هي للدين و السياسة بالغالب, لا تستطيع مثلا دفع فواتير او تقديم طلبات توضيف او طلبات للمعاملات الرسمية, معاملات بنكية تسوق,سبكة الطرق وامواصلات,حجوزات الطيران, بالاضافة للجانب الاكاديمي الذي يعتمد كليا على الانترنت,...

لدينا عقل يقيم
ممدوح وديع -

أختلف مع المقال لأن الطرح والرد على الطرح من أهم فضائل الأنترنت اليوم فلم يعد هناك حواجز بينك وبين المعلومة أو الأدعاء ولم يعد هناك ما يعيقك عن الرد أن كان لديك رد ولدينا جميعاً عقل يقيم - ولكن الكذب والأفتراءات والشتائم والسباب ليس لها وزن فتسقط مثل التبن - وليكن شعارنا القافله تسير والكذبة يكذبون .

أنت وأمثالك أولى
dr bassam al-khouri -

القراءة بالانترنيت ورغم الكم الهائل من الكذب تبقى أنفع من مشاهدة برنامجك ففيه على الأقل عشرة أضعاف الكذب والتطرف والتهجم على المذاهب والأديان أكثر من أسوأ موقع انترنيت ...ارجع لأرشيفك منذ 10 سنوات...!!!! ومن تطالب بمحاكمتهم وربما سجنهم فأنت وأمثالك أولى بذلك ....

عميت عين
العراقي الوفي بغداد -

واذا كنت تصدق ماتشاهد فلا تشاهد الجزيره مثل عربي

مقال رائع
أشرف -

مقال رائع يا دكتور وحقيقة عالجته من جميع الجوانب وبلغة عربية سليمة وبتناسق للافكار وهده الاشياء قلما توجد في بعض الكتاب الدين أعطاهم الانترنيت الفرصة لكي يشككوا في الدين ويهاجموا مخالفيهم في الراي ويحاولون استئصال كل من يحاول فضح مخططاتهم وعلاقاتهم المشبوهة

كلمة بسيطة
معاد -

ادا أتتك الضربات من الخلف فاعرف أنك في المقدمة. تحية لك يا دكتور فيصل ولقناة الجزيرة

الاوصاف المسيئة
بن عبد القادر -

مقال طيب، واشد على يد الصديق الدكتور زياد الحكيم تحية واكبارا له. ولكن لا بد لي من القول ان قراءة المقال أقرفتني في جزء منه، خاصة في الاوصاف المسيئة المكررة مثل دناءة وبذاءة وصفاقة وخسة الى ما هناك من اوصاف مسيئة للاذن. بامكان الكاتب ان يقول ما يشاء، فهذا حق له تكفله حقوق حريةالرأي، ولكن الابتعاد عن الاوصاف المسيئة يعتبر من الفضائل.

فكرة لتهذيب الإنترنت
رامز البيروني -

حتماً سيوافق عليها السيد القاسم: إيكال مهمة تهذيب الإنترنت العربي وترقيته إعلامياً، لعائلة الأسد وجماعاتها الجاسوسية. لا أمل ولا مستقبلً للإنترنت العربي، والعالمي أيضاً، إلا بالفلسفة الإعلامية، الحضارية والطليعية، التي تحملها عائلة الإسد. ألَم يخرج السيد القاسم، هو بالذات، وبما يمثّله من إشعاع ورقيّ في الإعلام، من بطن هذه العائلة، الأسدية، النيّرة؟.. مجرّد فكرة!

الى رامز البيروني
سمير - المغرب -

يا سيدي عوض مهاجمة الدكتور فيصل واتهامة بالتقرب لعائلة الاسد التي لايتوانى بعض الطائفيين في لبنان الصاقها بكل مايخالفهم الرأي كان عليك ان تناقش هدا الموضوع الدي طرحه اما اتهاماتك المجانية فهي لاتقدم ولاتؤخر

الاتجاه المعاكس
غريب -

اتفق تماما مع القاسم وكان عليه ان يضيف الى جانب الانترنيت قناة الجزيرة فالمشاهدة هي نوع من القراءة.

انا معك..ولکن
ابو عامر -

يمکن يا يا استاذ ان اتفق معك لکن في حال موافقتك على ان ينطبق ذلك ايضا على الفضائيات، حيث بات هؤلاء الذين تتحدث عنهم في مواقع مؤثرة فيها ولاسباب يعلمها القاصي والداني