كارثة «الدويقة» في المقطم و«جبال» الطائفيات في لبنان

طلال سلمان

أما "الخبر" فمصدره القاهرة، عاصمة مصر التي لم تعد "المحروسة"، بل لقد باتت عرضة لنهب منظم جداً و"عصري" جداً، يشمل الأرض والنيل وأرزاق الناس وأعمارهم عبر كوارث هي في حقيقة الأمر جرائم جماعية ونتائج دموية لهيمنة الشراكة الجهنمية بين سلطة عاجزة و"النهابين" الذين يستقوون بها على الشعب فيحرمونه من كرامته الوطنية وأنفته ويذلونه بحاجته وعياله إلى الرغيف.
وأما تداعيات هذا الخبر ـ الكارثة وأبعاده فتتجاوز "قاهرة المعز" لتشمل كل هذه الأرض العربية، الغنية بثرواتها، والمفقرة بسلطاتها العاجزة إلى حد الإذلال أمام عدوها، والمستقوية إلى حد التوحش على "رعاياها" المحكوم عليهم باستحالة التغيير، إذ كلما رفعت جماعة صوتها احتجاجاً طوردت في الشارع واعتقلت فسجنت داخل أحلامها.
صار "النهابون"، بالتواطؤ مع السلطة الفاسدة والمفسدة، هم أصحاب القرار السياسي والأرض والخبز، بينما تحولت "الدولة" إلى أثر من الماضي، تأكل نيران الإهمال مؤسساتها ذات التاريخ وأختام معاهدات الاستسلام للعدو رموزها التي كانت تشهد على سبقها إلى التقدم السياسي والاجتماعي.
ولم تصبح المأساة "خبراً" إلا عندما تعاظم عدد الضحايا، وأمكن لإعلام غير رسمي أن ينقلها فضيحة مدوية بالصورة وصرخات الالتياع والحزن على الأعمار التي ضاعت والرزق القليل الذي ابتلعته الهاوية التي انفتحت بين صخور المقطم الذي كان حارساً للقاهرة فحوله الفقر مع الإهمال إلى مقبرة جماعية للآتين لطلب الحماية منها ضد الجوع.
ولم تكن "الدويقة" التي حفرها فقراء الأرياف بقوة حاجتهم إلى الرغيف لتحلم بأن يذكر اسمها المبتدع بالمصادفة، في نشرات الأخبار، وأن تحتل صور "بيوتها" العشوائية التي بُنيت غالباً في العتم، وبالرشوة، صدر الصفحات الأولى من الصحف داخل "القطر" وخارجه، وإن ظلوا ـ كما العادة دائماً ـ بلا أسماء...
الفقراء يموتون، دائماً، بصمت، بلا مواكب وإعلانات وضوضاء. يموتون وكأنهم لم يولدوا قط. تسقط أسماؤهم سهواً في قبور بلا شواهد. يرحل واحدهم كخيال عابر لا ظل له.
كم سقط فوق الركام في الدويقة، أمس؟ كم بقي تحت الركام؟ لا يهم. هم مجرد أرقام. ربما كانوا خمسين. ربما صاروا مئة. ربما استقرت اللائحة الرسمية على خمسمئة. ماذا يهم؟ ما الفرق؟ قبلهم ابتلع البحر الأحمر ألفاً أو يزيد... لكن صاحب "العبّارة" ما يزال طليقاً يتمتع ببراءته... أما الفنانة اللبنانية فقد حرّكت في القضاء المصري ما لم تحرّكه الألف جثة، لأن الجريمة "دولية"، ولأن المتضرر معنوياً منها أقوى من "النهابين" في مصر المحروسة.

حتى جبل المقطم نخره الفقر فانهار على الفقراء الذين لجأوا إليه وهو أجرد، قاحل، لا ينبت فيه زرع، وليس فيه شجرة يحتمي بظلها المتعبون...
.. والدولة التي وقفت وتقف دائماً عاجزة أمام الفقر ليست دولة الفقراء. إنها دولة "الخاصة".
بهذا المعنى فإن المنطقة جميعاً تكاد أن تكون ركاماً لدول طالها الانهيار. ما كان ثابتاً فيها نخره الإهمال وسوء الإدارة، أو التبعية، والاستعلاء على الشعب، وإنكار حقوق الناس والتعامي عن الظلم. ساد الفساد حتى صار قاعدة للحياة. من يستغرب أن تنمو "القاعدة" في مثل هذه القاعدة الشعبية العريضة؟!
خارج مصر ومن حولها "دول من ركام" هي الأخرى.
"دول" نبتت فيها، أو أُنبتت جبال من طوائف ومذاهب، اتخذها الناس ملاجئ. طلبوا فيها المأوى الآمن من خطر "الآخرين". أخذهم إليها الخوف. الجأهم إليها غياب "الدولة"، فصارت الكهوف والمغاور، والبدع، والهرطقات والشعوذة مصادر للأمان... مع الخبز!
تمّ تخويف كل طائفة من الأخرى. صار الجميع خائفين. بات كل يبحث عن جبل ـ كهف آمن يحتمي فيه من خوفه ومن الآخرين. الخوف أقوى من السلاح.
... وها نحن نشهد زحف "الجبال" على "الجبال"، في لبنان!
وها نحن نشهد الخائفين يقاتلون الخائفين، في العديد من الأقطار العربية!
ها نحن نشهد اقتتالاً مفتوحاً بين الفقراء في "جبال الخوف المتبادل". لا جبل في بيروت، لكن الخوف أقام "جبالاً" من نار يحتمي فيها الأخ من أخيه. لا جبل في طرابلس. لكن الخوف أقام جبالاً وأودية من نار، حفر كل لنفسه فيها "خندقاً" وتربص بأخيه حتى لا يسبقه إلى قتله. لا جبال في بلاد بعلبك، وفي سعدنايل ـ تعلبايا، وفي إقليم الخروب، وفي بلاد جبيل، وفي بلاد عكار، وفي بلاد البترون أو في بلاد بشارة. الجبل كان ذات يوم مصدر العزة... لكن جبال الطوائف المخوّفة والمخيفة تتكاثر كالفطر.
تعاظم خوف اللبنانيين بعضهم من البعض الآخر حتى اعتصم كل فريق في "جبله". حفر لنفسه أنفاقاً تتهدده بأن تنهار عليه، لكنها تعطيه ـ للحظة ـ الشعور بالأمان!!
من ألجأ اللبنانيين إلى "جبال" وهمية مهددة بأن تتحول إلى ركام تقتلهم تحت أثقالها؟!
هي السلطة الغافلة أو المتغافلة، والتي أخلت مكانها للقادر على أخذه.
هي السلطة التي تعامت عن الفقراء في وطنهم، والذين لم يجدوا مصدراً للرزق من أرضهم التي كانت خصبة ومعطاء فقحطت، فجاءوا إلى العاصمة وضواحيها يحفرون في صخورها أو رمالها مأوى لهم يعرفون أنه محفوف بالمخاطر، لكنهم يهربون من الموت جوعاً إلى احتمال الموت تحت الركام.
في لبنان يحفر الخلق مآوي آمنة في "جبال" الطائفيات والمذهبيات، وينامون بعيون مفتوحة خوفاً من الانهيارات التي لا بد ستأتي!
وكل "جبال" الطائفية والمذهبية في لبنان مهددة بالانهيار على طوابير الفقراء ممن اتخذوها ـ بالخوف ـ مسكناً أو ملجأ. الكل خائف من الكل.
وكل يلجأ إلى مغارة طائفته، في "جبلها"، ليحتمي من الآخر. والكل يعرف أن الملجأ ليس آمناً... لكنه جاء يطلب بعض الأمان فيه، لأن الخطر الأكيد في "الخارج" أشد من احتمالاته في فيء الطائفة وفي حماها!

حيث تشيخ الدولة، بهيكلها الجامع وأجهزتها التي يفترض أن تكون في خدمة الشعب، وليس في خدمة طبقة أو جماعة طفيلية من النهابين (والقتلة بشهادة القتلى الذين يتساقطون على مدار الساعة نتيجة الإهمال المقصود أو احتكار مصادر الرزق، أو استخدام قوة السلطة لقهرهم...).
حيث تشيخ "الدولة" يتفرّد أهل "السلطة" بالقرار، بالاستناد إلى ارتباطات ومعاهدات مع من يرى فيهم الشعب "العدو"، ويصبح من المؤكد أن تقترب "الدولة" من حافة الانهيار، وأن تنهار، متى انهارت، على أصحاب المصلحة في مشروعها. تغتصب "الدولة" وينهبها "رعاتها"... فتصبح ـ بوظيفتها ـ معادية لمن يفترض أنها قامت بسببهم ومن أجلهم ولتحقيق طموحاتهم في الاستقلال والخبز مع الكرامة.
في لبنان لم تكن "الدولة" أبداً في خدمة شعبها، بفئاته المختلفة. كان الحديث دائماً عن "كيان" وعن "طوائف"، وعن "الخوف". وللكيان وظيفة سياسية ـ طائفية. وحين اقترب الكيان من أن يصير دولة لجميع مواطنيها، رأى آخرون أن وظيفة هذا الكيان قد انتفت، وجهر بخوفه فإذا الكل خائفون...
و"السلطة" حتى إشعار آخر، هي نتيجة اتحاد الخائفين على المصدر الوحيد لخوفهم!

"الدويقة" ليست اسم مكان طارئ على خريطة القاهرة في مصر المحروسة.
"الدويقة" اسم زماننا العربي الراهن، حتى لو اتخذ ألقاباً مموهة في لبنان غيرها في مصر، وفي فلسطين غيرها في العراق، وفي المغرب العربي غيرها في اليمن إلخ...
أما الخليج فقد بات استثناء، إذ صار المكان فيه هو الزمان...