جريدة الجرائد

غزّة... والعرب... والعالم

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

محمد مخلوف

هناك أولاً وأساساً غزّة. غزّة التي تخيفنا وتقلقنا وتعذّبنا الصور التي نشاهدها لها على شاشات التلفزة. فكيف بالنسبة لأولئك الذين يعيشونها بلحمهم ودمهم وشهدائهم؟!.لا مجال للمزايدة وكل قول هو أصغر من التعبير عن الواقع. ثمّ إن الحديث هنا للقصف والقتل وليس للكلام.

لكن الحالة التي يعيشها المتفرجون قسرا ليست شعرا ولا بلاغة لفظية ولا مجرّد كلام إنشاء حول الرعب الذي يعيشه شعب في مواجهة عدو مغتصب جبّار. إنها حالة من يحس بالسكين على رقبة عزيز على قلبه ولا يستطيع أن يفعل له شيئا سوى أن يتألم، يبكي، ينظر إلى السماء، يصرخ ، يتظاهر، يهتف بـ "الروح بالدم". مئات الآلاف الذين خرجوا إلى الشوارع في طول الوطن العربي وعرضه جسّدوا تلك الحالة الحقيقية "العاطفية الإنسانية".

السياسة لا تسيّرها العواطف والنزعات الإنسانية وإنما المصالح والحسابات. هكذا كان الأمر دائما من قبل... وهكذا هو اليوم... وهكذا سيكون غدا.

منذ ستة عقود من الزمن، أي منذ قيام الكيان الصهيوني، لم تعرف منطقتنا لحظة من الهدوء الحقيقي؛ فإسرائيل تأسست أصلا على العدوان وعاش معها منطق التصعيد المستمر وسلسلة من الحروب.

ولم تكن آمال السلام طيلة هذه الفترة سوى مجرّد أوهام. وصيغ السلام المجزوء التي قامت هنا وهناك كانت محسوبة بدقّة من قبل إسرائيل. إنها تجيد الحساب، ينبغي الاعتراف بذلك. إذ في كل مرّة خطت فيها نحو "أولا" كانت تحسب حتى عاشرا على الأقل. وفي كل مرّة أطلق قادتها تصريحات "سلام" كانوا يحضّرون في الواقع لعدوان أو حرب.

ولنقرأ ما قاله مؤخرا إيهود اولمرت لجريدة "يديعوت احرونوت" ونقلته "الهيرالد تريبيون" وبعدها "مجلة نيويورك للكتب" وجاء فيه: علينا التوصل إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين. هذا يستدعي انسحابا كبيرا من الأراضي ـ لا يستطيع أن يضيف المحتلّة، ولا شك أن نسبة من هذه الأراضي سوف تبقى تحت سيطرتنا، لكن سوف ينبغي التعويض عليهم بما يعادلها. وإلاّ لن يكون هناك سلام. ولم يتردد اولمرت في أن يؤكد في نفس السياق قناعته أن السلام مع سوريا يستدعي تخلّي إسرائيل عن هضبة الجولان .

أمّا السيدة تسيبي ليفني فقد صرّحت في نفس اللحظة التي كانت فيها الطائرات الإسرائيلية تقصف منازل غزّة أن هدف إسرائيل من العملية هو "بناء عالم تسوده الحرية والسلام للجميع".

ومنذ ستة عقود كان الموقف الأميركي الرسمي خاصة، والموقف الغربي عامة يتميز بـ "التحيّز غير المشروط" لإسرائيل . وإذا كان هذا التحيّز واضحا وجليا تاريخيا فإنه ظل "أمينا" لنفس النهج حيال قصف غزّة والقتل العشوائي الذي حوكم آخرون على ما هو أقل منه بكثير كـ "مجرمي حرب".

هكذا نقرأ في افتتاحية إحدى الصحف الفرنسية الكبرى ـ الفيغارو ـ أن "الدولة العبرية التي أعياها قصف أراضيها بالصواريخ والقنابل قررت القيام بهجوم كبير ضد قطاع غزة". هذه بعض العينات من أحكام القيمة القاطعة دون أي نقاش والتي تعج بها الصحافة الغربية.

ثم ماذا فعلت أوروبا حيال حصار غزّة الذي استمر أسابيع وبعده حيال قصفها غير الإنساني؟. لا شيء ذا جدوى حقيقية. لقد أرسلت مبعوثين دبلوماسيين لم يتم السماح لهم أحيانا بالوصول إلى غزّة.

هذا إذا لم يتم احتجازهم لساعات طويلة في المراكز الحدودية الإسرائيلية، كما جرى لقنصل فرنسي دون أن يثير ذلك حتى احتجاج رسمي من دولته. وما هو أخطر وأدهى من ذلك اقترحت المفوضية الأوروبية والمجلس الأوروبي السماح لإسرائيل بالوصول إلى البرامج الأوروبية في ميادين البحث العلمي والأكاديمي والتقني.

وغني عن القول ان تصريحات المسؤولين الأميركيين والبيت الأبيض ليست أقل بلاغة في تأييدها لإسرائيل. لكن قد تكون السياسة الأميركية على أبواب تغيير "ما". هذا ما عبّر عنه الصحفي اليهودي روجيه كوهين في الهيرالد تريبيون غداة تعيين السيدة هيلاري كلنتون وزيرة لخارجية أميركا في الإدارة القادمة إذ قال ان الولايات المتحدة قد أخطأت عندما "وقُعت شيكا على بياض لإسرائيل".

و"أخطأت عندما غضّت نظرها عن المستعمرات في الضفة الغربية (...) وأخطأت عندما جهّزت إسرائيل بأسلحة متقدمة جعلت الإسرائيليين يعتقدون أن الرد العسكري هو الرد المناسب على كل مشاكلهم". بكل الحالات هذا "الخطأ" هو ما ينبغي أن يفهمه الرئيس اوباما أولا، ذلك أن التغيير الحقيقي في الشرق الأوسط يتطلب كأحد الشروط الأساسية أن تتعلّم واشنطن أن تقول "لا" لإسرائيل.

وأمام منطق التصعيد الإسرائيلي المستمر والحروب "الدورية" والانحياز الغربي لإسرائيل ساد "منطق" عربي للتراجعات "الدورية" أيضا. وبالتوازي مع التراجعات ـ الهزائم عام 1948 ثم عام 1967 مشت المواقف السياسة العربية القهقرى. هكذا انحدر الخط البياني لهذه المواقف من "لاءات" الخرطوم الثلاث ـ لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف بالعدو الصهيوني ـ بعد حرب 1967 وصولا إلى القول ان "العلّة" هي في إسرائيل التي "لا تريد السلام".

باختصار تناظر الموقف العربي حيال مجمل القضايا مع خطوات تقهقر من موقع الـ "لا" إلى الـ "نعم، بشروط" ثمّ إلى الـ "نعم بدون شروط".

تبقى هناك أسئلة عديدة مربكة. فلماذا ينتهي الأمر في كل مرّة إلى قبول ما كان قد جرى رفضه في البداية؟. ولماذا لم يتم اتخاذ أي موقف موحّد وثابت حول أية قضية مصيرية تمس الجميع؟.

ولماذا "بمرارة" لم يتم القبول بقرار تقسيم فلسطين إذا كان هذا قد أضحى هو الهدف اليوم؟. وهل كان من الضروري الوصول إلى قصف غزّة إسرائيليا للتنادي من أجل حوار وطني فلسطيني؟. ولماذا تصب كلها في طاحونة سؤال كبير: لماذا هذا الوضع العربي المتردي المزمن؟!.

واليوم عند كتابة هذه الكلمات "المشتتة" تحت وقع القنابل على غزّة، وفي الوقت الذي لا يعرف فيه أحد إلى أين ستؤول إليه الأمور وكم سيسقط من الشهداء بفعل آلة الحرب الإسرائيلية الرهيبة ، هل من المشروع التساؤل عن إمكانية وصول أصحاب القرار العرب إلى قرار "جريء"، لهم هم أنفسهم مصلحة فيه، يطرحونه على إدارة اوباما التي تتأهب لقيادة سفينة السياسة الأميركية في العالم؟.

لعلّهم بذلك يساعدونها على أن لا تكون أسيرة نهج أميركي مزمن هو الآخر في التحيّز، وأن تقول "لا" لإسرائيل. ولمـرّة واحدة ، منذ زمن طويل، من المطلوب اليقظة المبكّرة أي في الوقت المناسب والسياق المناسب. هكذا أيضا تكون دماء شهداء غزّة لم تذهب هدرا.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف