نائب رئيس أم رئيس مشارك؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
جميل مطر
بعد أيام يرحل مع الرئيس بوش ldquo;أخطر نائب رئيس جمهورية في التاريخrdquo;، وهو التعبير الذي اختاره جون بايدين، نائب أوباما، ليصف ديك تشيني نائب الرئيس بوش. لم أقرأ أو أسمع من قبل تعبيراً في وصف نائب رئيس أمريكي في شدة هذا الوصف وقوته. ولكن يبدو أننا بالرغم من كل ما نعرفه عن إدارة الرئيس بوش وهو كثير جداً، فإننا في الواقع لا نعرف إلا القليل إذ يتضح شيئاً فشيئاً أن ما يخفى أعظم، وأن العلاقة التي قامت بين بوش وتشيني لم تكن علاقة عادية بين رئيس ونائبه. وقد لاحظ كثيرون غرابة هذه العلاقة وراقبوها منذ وقت غير قصير.
يروي أحد المعلقين السياسيين أنه لاحظ في أعقاب حادثة برجي نيويورك في عام 2001 أن الرئيس ونائبه لا يفترقان عندما يدعى أحدهما للحديث. ويذكر أنه حين دعا الرئيس بوش للإدلاء بشهادته في حضور اللجنة التشريعية المكلفة بدراسة أسباب الحادثة وظروفها أن تشيني لم يبتعد عن الرئيس بوش طيلة الجلسة وكان تفسير المعلق أن الرئيس ونائبه كانا حريصين على أن تأتي الشهادتان متطابقتين وأن الرئيس وحده صاحب القرار ومطلع على كل صغيرة وكبيرة. وينقل معلق آخر عن بوش تصريحه في 2003 حين قال ldquo;أنت عندما تتحدث مع تشيني فأنت في الحقيقة تتحدث معيrdquo;.
وتتعدد القصص عن خلفية هذه العلاقة الوثيقة بين الرئيس بوش ونائبه تشيني، وأظن أنها ستزداد ويزداد الاهتمام بها في الشهور القادمة. وأظن أيضاً أن الرئيس نفسه سيكون الدافع لإثارة اهتمام زائد بهذه العلاقة. أستطيع أن أتخيل شدة الحملة التي سيتعرض لها جورج بوش بعد مغادرته البيت الأبيض، وأستطيع بالتالي تصور المدى الذي سيذهب إليه في محاولة الدفاع عن نفسه وسياساته. لقد بدأ بوش بالفعل الرد بالاعتذار، وأول ما بدأ به كان اعتذاره عن تسرعه في الاقتناع بالمعلومات الاستخباراتية عن أسلحة الدمار الشامل في العراق. بمعنى آخر يعترف بوش بأن المعلومات التي زوده بها تشيني كانت زائفة وربما ldquo;مختلقة من أساسهاrdquo; بهدف محدد هو غزو العراق واحتلاله لمدة طويلة.
ولا شك أنه يوجد في تفاصيل سيرة ديك تشيني ما يثير عشرات الأسئلة عن دوره في إدارة بوش ومسؤوليته عن ldquo;سقوط أمريكاrdquo;. لم يكن تشيني رجل أعمال ناجحاً رغم أنه كان على رأس شركات هاليبرتون قبل أن يغادرها إلى البيت الأبيض. ولكنه كان دائماً خلاقاً ومبدعاً في الأفكار. فمن من خلال هاليبرتون وعضويتها في معهد أمريكان إنتربرايز، معقل اليمين المتطرف، أطلق ما عرف بمشروع القرن الأمريكي الجديد متعاوناً مع إرفنج كريستول أحد أشد اليمينيين تطرفاً، للترويج لفكرة أمريكا فوق الأمم وتفكيك نظام الرعاية الاجتماعية والصحية، تحت عنوان ldquo;لا حياء في العلم أو في الرأي أو في الموقفrdquo;، أي رفض المبادئ التي يقوم بها البحث العلمي كما تمارسه مؤسسات البحث والفكر وفي صدارتها مؤسسة راند الأشهر. كان أحد شعارات تشيني وجماعته الممثلة في كريستول وكاجان وبول وولفوتيز وستيفن كامبوني ولويس ليبي أن لا حدود لهيمنة أمريكا على العالم، وقرروا استناداً إلى هذا الشعار استئناف سياسات الحصار ضد روسيا، والضغط على الدول الصاعدة، وهو ما اتضح من تقرير ldquo;إعادة بناء دفاعات أمريكاrdquo;، كما قرروا تنفيذ المشروع الذي خطط له زلمان خليل زاده في عام 1992 وكان عنوانه وقتذاك ldquo;المرشد في التخطيط الدفاعيrdquo; وتبناه تشيني وكان وزيراً للدفاع في حكومة بوش الكبير. وبعد تولي تشيني مسؤوليات نائب بوش الصغير وضع له عنوان ldquo;الحرب الوقائيةrdquo;، أو كما عرف بعد ذلك بمبدأ تشيني. والمعروف أن شخصيات ldquo;شريرةrdquo; كثيرة دعمت الفكرة وخططت لها ونفذتها ومنهم ريتشارد بيرل ldquo;أمير الظلامrdquo; ودوجلاس فيث وكلاهما من أشد الكارهين للعرب والمسلمين.
كانت هذه الجماعة، وبوش على رأسها، صاحبة فكرة القضاء على ldquo;ثقافة الفقرrdquo;. ولم يكن الهدف القضاء على الفقر ولكن القضاء على كل ما يذكر بالفقر. وأول ما يذكر بالفقر في رأي تشيني وجماعته هو نظام الرعاية الاجتماعية والصحية وسياسات الدعم النقدي أو العيني للفقراء ومحدودي الدخل، ولذلك ينصحون بإلغائها وهي النصيحة التي تأخذ بها نخب حاكمة كثيرة في دول العالم النامي.
لم تكن مبادئ تشيني وممارساته مفاجئة لهؤلاء الذين تابعوا صعوده في سلم السياسة الأمريكية. كان باستمرار صريحاً وواضحاً في دعوته إلى زيادة نفوذ السلطة التنفيذية على حساب بقية السلطات. وكان جريئاً وقوياً حين اتخذ موقفاً صريحاً ضد استقالة نيكسون في أعقاب ووترجيت، وضد كل التشريعات التي تحد من حق الحكومة في التجسس على المواطنين وقام بشن حملة ضد قانون مراقبة أنشطة الاستخبارات الأجنبية في الولايات المتحدة بسبب القيود التي وضعها القانون على السلطة التنفيذية لمراقبة المواطنين الأمريكيين وقال وقتها ldquo;سنستمر في الضغط في انتظار قنبلة أخرى تنفجر في مكان ما حتى نتمكن من إلغاء هذا القانونrdquo;. لم يكن خافياً في أي وقت عدم ثقته في نواب الكونجرس، وهؤلاء وصفهم بأنهم ldquo;كثرة لا أكثرrdquo;، مجرد 535 فرداً يسعى كل منهم لادعاء الفضل عند الإنجاز والتنصل من المسؤولية عند الفشل. على هذا الأساس جاءت نصيحة تشيني للرئيس بوش عشية اتخاذ قرار الحرب ضد العراق بألا يستشير الكونجرس ولا يعرض عليه قرار الحرب.
وعندما تشكلت اللجنة بقرار من مجلس الشيوخ برئاسة السناتور ldquo;تشيرشrdquo;، للتحقيق في حجم المعلومات التي تقوم السلطة التنفيذية بحجبها عن المواطنين والأجهزة التشريعية الرقابية، عمد تشيني إلى جمع كافة المعلومات الاستخباراتية (التي تدين السلطة) ووضعها في خزائن بالبيت الأبيض بعد أن أضاف إلى قانون تشكيل اللجنة مادة تحظر الاطلاع على ما يحتفظ به رئيس الدولة. ويقول خبراء في الأمن والاستخبارات وكما جاء في تقرير أصدرته وكالة الاستخبارات الأمريكية في 2007 إن أغلب هذه المعلومات تتعلق بعمليات اغتيالات واختطاف في الخارج وتجسس على المواطنين في الداخل.
كثير من التفاصيل في سيرة تشيني تحكي عن جانب مهم من جوانب عهد جورج بوش، أحد أسوأ عهود الحكم في الولايات المتحدة، وتفسر تدهور حال الديمقراطية وغيرها من أحوال السياسة في العالم، كتبت هنا عن بعضها ومازالت هناك تفاصيل تحكي عن جوانب أخرى وقد تجيب عن السؤال التالي: هل كان تشيني نائباً للرئيس أم مشاركاً له؟ أم أن تشيني هيمن فقط في السنوات الأربع الأولى قبل أن يستعيد بوش منه سلطاته في اتخاذ القرارات المتعلقة بالسياسة الخارجية في النصف الثاني من ولايته؟ يبقى أن هناك من يعتقد أن تشيني أو ما يمثله من عقيدة سياسية لن يختفي ببساطة وسيستمر تأثيره من خلال عناصر اليمين المتشدد الذين تسربوا في العديد من مواقع القوة في الولايات المتحدة. أستطيع وبثقة كبيرة أن أشارك أصحاب هذا الاعتقاد اعتقادهم.