جريدة الجرائد

قانون «الحرافيش»

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

محمد صادق دياب

في مقهى عتيق يحمل اسم "الحرافيش" بالقاهرة، ألوذ ليلا لسماع جرعات من الفن الأصيل، تعزفها فرقة مكونة من ثلاثة عازفين، وتتشكل من عود وناي وطبل، ويوشك غناء هذه الفرقة أن يقتصر على أغنيات أم كلثوم وعبد الوهاب وسيد درويش، وإن تجاوزتهم فلن تذهب إلى ما هو أبعد من عبد الحليم حافظ. في هذا المقهى الذي زين مدخله بتماثيل الحرافيش، ورصعت جدرانه بصور أدباء مصر وفنانيها، التي رسمها الفنان العظيم حسن الأدلبي، يستوقفك تنوع جمهور هذا المقهى، إذ يضم خليجيين، وشوام، وسودانيين، ومغاربة، يمكن وصفهم بآخر "السميعة" الحقيقيين للطرب الأصيل، في زمن "النطنطة" وفجور "الفيديو كليب".

في ذلك المقهى لا تحتاج أن تسأل عن معنى "الحرافيش"، حيث تجد شرحًا للكلمة في غلاف قائمة الطلبات، تشير إلى أن الحرافيش هي في الأصل اختصار لعبارة "حارة مفيش"، وتعني أولئك الفقراء المشردين الذين ليس لهم مأوى يأوون إليه، وأن الكلمة وردت أول مرة في كتابات الجبرتي، يصف بها المعدمين في عهد المماليك، ثم تكرر استحضارها بعد ذلك في كتابات رفاعة الطهطاوي، يصف بها مقاهي الفنانين والمثقفين بباريس، لكن الفنان أحمد مظهر هو أول من أطلق هذه الكلمة على "شلة" من الأدباء والفنانين، تجتمع أسبوعيا في أحد مقاهي القاهرة، وتدين هذه الكلمة بالفضل لنجيب محفوظ، الذي جعلها عنوانًا لأحد أبرز أعماله الأدبية وأشهرها.

تغيب عن القاهرة سنة أو أكثر، وتحضر إلى المقهى؛ فتشعر وكأنك غادرته قبل لحظات، أو كأن الزمن قد توقف داخل المقهى، الرواد هم الرواد بوجوههم التي ألفتها، والعازفون هم العازفون بأصواتهم الندية التي تعودتها، والعاملون هم العاملون بابتساماتهم الصادقة التي يستقبلونك بها، حتى قائمة المشروبات "قهوة، شاي، سحلب، قرفة، كركديه، عِنَّاب" لم تتجاوز مفرداتها إلى غيرها. في ذلك المقهى لا تجد طاولة محجوزة لثَرِيٍّ لم يقم من نومه بعد، فكراسي المقهى لمن حضر، والمقدمة لأول القادمين، وقانون "الحرافيش" غير قابل للتغيير بـ "البخشيش"، أو التعديل بالوجاهة، حتى لو كان القادم "أبو زيد". الحرافيش جزء من سلسلة تفاصيل صغيرة وحميمة، هي سر أسرار القاهرة، وبوابة اكتشافها.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف