تساؤلات موتى عائدين من «غزةٍ ما».. لماذا يحرق الثوار بيوتهم؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
سرمد الطائي
أشعر بلون من الانتماء إلى أفلام الموت القادمة من غزة، في وسعي تذكّر طعم المشهد وشم رائحته وتحسس ملمسه الخشن والمتيبس، استرجاع نمط دقات القلب الذي يرافق من يقيم داخل لقطة من هذا القبيل.
غزة جزء من سيرتي (سيرتنا) نحن الذين كان لنا "شرف" العيش في ظل حكومة "الثوار" الكبار، مسؤولي أنظمة كانوا أم زعماء حركات مسلحة أم آيات الله، يوم عايشنا الموت مقترنا بجوع المحاصرين، مرات عدة.
علاقتي الطبيعية بهذه المآسي ولّدت عندي رغبة بطرح أسئلة الموتى لسماع "أنين مختلف" لضحايا مطمورين تحت بنادق الثورة... كي أتساءل بوصفي ناجيا من بعض "الغزّات" أو ميتا عائدا كان يقيم في مشهد متطابق يتكرر في أماكن عرفناها وأخرى لم نعرفها.
شهيد بالإجبار
حدث قبل ثلاثة أعوام، أن جاري في إحدى مدن العراق، كان يحاول إخفاء أطفاله تحت سلّم الدار، اتقاء لمعارك شرسة تدور في الحي، لكن زوجته راحت تصرخ حين لمحت عناصر من إحدى الميليشيات "المقاومة" يتسلقون السطح وينصبون أسلحتهم هناك بينما الدبابات الأميركية تلاحقهم. هرع صاحبنا ليرجوهم البحث عن ساحة أخرى للمعركة: لماذا تستدرجون الدبابات إلى داري؟ هناك باحة واسعة أمام الحي، أنشئوا خنادقكم هناك وقاتلوا. رجاء خائف على أرواح الصبيان لم يجد جوابا إلا برصاصة تنطلق من كلاشنكوف "مقاوم" لتردي رب البيت. إنه "متخاذل" يرفض التضحية!
في واقعة مشابهة، لم ينته المشهد هكذا، توفرت ظروف مساعدة شجعت الأهالي على "طرد المجاهدين" بالقوة من الحي السكني... قالوا لهم: حاولوا أن تختاروا مكانا مناسبا "لجهادكم". لم يكن الأهالي ضد "التحرر" بل كانوا يرمون إلى معنى بالغ الخطورة.
سألت أحد زعماء "الكفاح المسلح" في العراق مرة: إذا كنت تود الذهاب إلى "جنتك" فلماذا تصر على أخذنا جميعا معك بالطريقة التي تختارها أنت، وبتوقيتك أنت؟ وكأي "مناضل" راح ينعتني بالجبن.
أهالي سريناغار في كشمير، وقرى الكونغو، وآخرون في غابات كولومبيا، البلدات الكردية والأفغانية، جنوب لبنان والسودان، مختلف المناطق التي ينشط فيها "الثوار"، ملزمون بالرضوخ لقرارات عدد من المسلحين، ذاهبون إلى الجنة بقرار من ذلك العدد المحدود، عائدون من الجحيم بقرار من هؤلاء أنفسهم.
عار أن تنتقد طريقتهم في صناعة القرار، وستكون جبانا لو اعترضت على مفهومهم "للشجاعة" أو التوقيت الذي اختاروه، أو التناقضات التي تمتلئ بها بياناتهم وخطاباتهم.
غزّتان لصدام والخميني
عام 1986 اقترب الجيش الإيراني كثيرا من البصرة، كنا نقيم في بلدة "التنومة" التي تبعد 15 كم عن الحدود مع المحمّرة، بتنا نسمع صوت الأسلحة الخفيفة ونبتلع الأسلحة الثقيلة، لكن الجيش العراقي رفض السماح لنا بالمغادرة. كان ضابط أمن يردد "تريدون العبور إلى الجهة الأخرى من المدينة لتثبيط معنويات المواطنين". بعد يوم من ذلك جاء قائد عسكري بقي لديه شيء من الفروسية، وسأل ضابط الأمن مستنكرا: كيف سأحارب والمدنيون ينتشرون في ميدان القتال؟ أمر بإخلائنا بسرعة، لكن العشرات منا كانوا لقوا حتفهم دون مبرر.
نظراؤنا الإيرانيون عاشوا حالا مشابهة. قتل مئات الآلاف بينما كان آية الله الخميني يؤكد أن التضحيات مطلوبة حتى "تحرير القدس وكربلاء". وبعد ثمانية أعوام اضطر لإنهاء القتال الذي كان يمكن إنهاؤه قبل ذلك بكثير. اكتفى بالقول إن الثورة انتصرت... لأنها قدمت "تسهيلات للشباب بالعروج إلى السماء والإقامة في الجنة" وهذه العبارة مأخوذة نصا من خطابه الشهير العام 1988.
في ألمانيا وبينما كانت الدبابات الروسية تقتحم "الرايخ العظيم" مقر قيادة هتلر، معلنة الهزيمة النهائية، ظلت فرق الفوهرر تتجول في أحياء برلين وتنفذ أحكام الإعدام بفتيان رفضوا حمل السلاح. كم هي متشابهة محنة الإنسان يا ترى؟
خيط حسين عبد اللطيف
العديد ممن يموتون في إطار "بزنس" الثورات المسلحة، يرددون: نحن ضحايا، لم نرد أن نكون شهداء، لم نتخذ قرارا بالموت بعد أيها السادة.
كم من شهيد يا ترى كان موافقا على قرار الحرب أو العنف المسلح؟ كم من جريء اعترض على "استبداد الحكومات" ولم تسعفه الجرأة في الاعتراض على "استبداد الثوار"؟
بوصفنا أمة "متحمسة"، فإننا لا نمتلك الوقت الكافي لطرح الأسئلة، ليس لدينا وقت أو مزاج مناسب للإنصات إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وهو يردد "إذا كانت المقاومة تريد فناء الشعب، فنحن لا نريدها".
وبوصفنا أمة "متحمسة" فإننا لا نمتلك وقتا لكي نسمع الأنين الآخر في "غزّات" عديدة داخل عالمنا، الملايين ينصتون لأمثال خالد مشعل، لكن لا أحد ينصت لجاري الذي "استشهد" بالإكراه وكان يعترض على "دكتاتورية الثوار". لا أحد يصغي لكلمات الموتى: لماذا يصر المجاهدون على أن يحاربوا داخل داري؟ لماذا يحرق الثوار بيوتهم؟ يستبد المحتل والثائر معا، بقرار الاحتلال وقرار المقاومة.
كنا نقول للثوار، إننا مستعدون للموت قبلكم، لو وجدنا في ذلك مخططا مجديا لتحرير الأوطان في هذه اللحظة وضمن الظروف القائمة. لكن موت مليون مسكين منا، ربما يجعل منكم أنتم زعماء مرفهين، دون أن يحرر الوطن. ذهب الضحايا وتحول الثوار إلى زعماء ولم يتحقق شيء من شعارات الكفاح المسلح.
ولأن أمتنا متحمسة للغاية، فهي لن تجد الوقت لسماع استفهامات الموتى أمثالنا، او مراجعة تاريخ طويل من الاستبدادات الجهادية. لن نجد الوقت للاستذكار، نبدأ من الصفر دوما وكأنها تجربتنا الأولى، أو "غزتنا" الأولى.
كتب الشاعر حسين عبداللطيف وهو يرقد في مستشفى البصرة قبل أيام، عن مسكين شد خيطا على إصبعه كي يتذكر أمراً... ولكنه "في آخر محاولة للتذكّر... نسي الخيط المشدود على أصبعه، مشدودا على أصبعه"... كم شهيد "مشدود على أصابع المجاهدين" نسيناه "مشدودا على أصابعهم" حتى حين تبدأ تلك الأنامل بتوقيع التسويات والاتفاقيات وتصافح أعداء الأمس، يصبحون زعماء وينسون بسهولة.