منظومة أخلاقيات لا منظومة أخلاق
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
منظومة أخلاقيات لا منظومة أخلاق تحكم العرب وتحركهم
عبد الرحمن الوابلي
تناولت في مقالي السابق "أهمية التفريق بين الأخلاق والأخلاقيات" الفرق بينهما من ناحية المفهوم والتطبيق؛ وأبنت الفرق الواضح بينهما. وحيث إننا كعرب لا نفرق بين الأخلاق والأخلاقيات ونعتبرها واحدة، حيث لا تساعدنا لا اللغة ولا الضمير الجمعي على رؤية الفرق الجلي بينهما؛ أخذنا نخلط بينهما خلطا عجيبا غريبا. وأصبحنا نخلط في مطبخنا الثقافي والحياتي بين الطين والعجين، ونصنع منه كيكة طينية نصر بلا خجل، على أنها تضاهي إن لم تبز كيكات كل مطابخ العالم، بما فيها مطابخ الدول المتقدمة التي سبقتنا في مجال الرقي والتحضر بسنوات ضوئية.
وهنالك فرق كبير بين الأخلاق (Morals) والأخلاقيات (Ethics). فالأخلاق هي مجموعة القيم والمبادئ التي تحرك الشعوب مثل العدل والمساواة والحرية؛ وتصبح مرجعية ثقافية لها وسنداً قانونياً تستقي منه دولها أنظمتها وقوانينها. أما الأخلاقيات فهي مجموعة القيم والآداب، المتعارف عليها شفاهة أو كتابةً بين أصحاب مهنة معينة، والتي يبنون عليها الأنظمة والشروط التي يعملون تحت ظلها كأخلاقيات مهنة. وعادة ما تكون أخلاقيات مهنة ما متضاربة مع أخلاقيات مهنة أخرى، وذلك في سبيل حماية المصلحة الخاصة والذود عنها. أي إنه ليس بالضرورة، أن تكون أخلاقيات مهنة متماشية مع أخلاقيات مهنة أو مهن أخرى، أو مع الصالح العام. فكل مهنة بالطبع، تتحيز لنفسها ولمصلحة العاملين بها.
والدين بشكل عام سند للأخلاق، وفي كثير من أحكامه الفقهية ضابط إن لم يكن مضاداً للأخلاقيات. أي إن الدين داعم ومؤيد للأخلاق، التي تصب في الصالح العام. وتظهر المشكلة جلية عندما يتم الخلط بين الأخلاق والأخلاقيات، وهذا ما وقع فيه العرب قديماً وحديثاً. حيث خلطوا الأخلاق بالأخلاقيات، أو بمعنى، دمجوا الأخلاق بالأخلاقيات وتعاملوا معها من هذا المنظور المجحف بحق الأخلاق، وأصبحوا يتمتعون بأخلاقيات لا بأخلاق، ويعتبرونها الأخلاق. ولذلك فقدوا أي مرجعية أخلاقية تستند لها ثقافتهم الوجدانية الجمعية وتبنى عليها قوانينهم وأنظمتهم الحياتية الخاصة والعامة؛ ليصبح لديهم منظومة أخلاقية معترف بها ومتعارف عليها.
وأتى هذا الخلط الغريب والعجيب، من التكوين البنيوي الاجتماعي والثقافي ثم السياسي التاريخي للعرب. فقبل أن تتكون للعرب دولة، بمعنى الدولة التي تكونت لاحقاً، كان غالبية العرب، يقطنون الصحراء، ويمتهنون مهنة الرعي. أي كانت مهنة الرعي مهنتهم الرئيسية إن لم تكن الوحيدة، التي يعتاشون منها. ولذلك فمن الطبيعي أن تظهر لديهم أخلاقيات مهنة الرعي واضحة وجلية. حيث شكلت لديهم منظومة أخلاقيات؛ تمثلت بثقافة القبيلة من عادات وتقاليد، أخذت تحركهم وتحفظ مصالحهم، ضد المهن الأخرى وأصحابها. ولذلك فليس بالمستغرب أن يستنكف العربي القبلي من المهن الأخرى مثل الصناعة والزراعة ويحقرها ويحقر العاملين بها، والتي كان من الممكن أن تغري بعض الرعاة لترك مهنة الرعي والانتقال للعمل بها، وقس على ذلك الاندماج مع الآخر وما شابه ذلك من عادات وتقاليد، تمليها أخلاقيات مهنة الرعي. والأخلاقيات تعتمد دوماً على مفهوم التميز الذاتي والإقصائية للآخر.
وعاش العرب تحرك ثقافتهم ووجدانهم الجمعي أخلاقيات مهنة الرعي، لأكثر من ألفي سنة، قبل أن تتأسس لهم دولة. وعندما أتى الإسلام وتأسست الدولة العربية الإسلامية، كان من المفترض أن تتحرك أنظمتها وقوانينها على منظومة الأخلاق الشرعية التي عمل بها، رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن عملية حرق المراحل التي أتت بعد مرحلة النبوة، والتي قامت الدولة بفرض سيطرتها وهيمنتها سريعاً وبوقت قياسي، على مناطق شاسعة وشعوب متباينة، أفقدتها ميزة البناء والنضج التدريجي الحضاري التراكمي، الذي كان من الممكن أن تتشكل من خلاله منظومة أخلاق متفق عليها من قبل جميع فئات شعوبها، خاصة كونها تمتلك الأساس الديني الداعم لمنظومة أخلاق متحضرة ومتفق عليها؛ ولم يحدث ذلك.
ولضمان سيطرة النخبة العربية الحاكمة للدولة الجديدة، المسنودة بعصبتها وعصبيتها القبلية، على مكاسبها التي أخذت تدر عليها ثروات طائلة ميسرة وغير منقطعة؛ حركت أخلاقياتها الرعوية لتتحكم بمقاليد سلطة دولتها الجديدة، وتنعم بـ "الغنيمة" لوحدها دون غيرها من باقي فئات وشعوب الدولة. ولتضفي الشرعية على تحكمها بمقاليد السلطة والغنيمة وتضمن عدم منازعة غيرها لها فيه، جللت أخلاقياتها الرعوية بالصبغة الدينية، وأخذت تحكم من منطلق منطق الراعي بالرعية الحرفي لا الرمزي.
ولذلك تحولت علاقة الأفراد بالدين إلى علاقة أفقية لا عامودية، أي أصبح الدين ينظم ويشر عن علاقة الأنا بالسلطة وعليه الأنا بالآخر، لا الأنا بالذات الإلهية، خاصة في الأمور العقدية والتعبدية الخاصة. كما تم تهميش مقاصد الشريعة من حفظ الحقوق بالعدل ونفي الظلم (أخلاق)، وتم التركيز على الحلال والحرام (أخلاقيات) وجعلها صلب الدين وركيزته. وعليه تم بالتدريج نظم منظومة أخلاقيات عربية مقدسة؛ سعت لتطبيقها واحتكار تفسيرها النخب الحاكمة آنذاك. فأصبح من يتمسك بها يضمن نعيم الدنيا ونعيم الآخرة، بجانبهم وحدهم دون غيرهم، من المعارضين والمزاحمين لهم. ولذلك أصبح التمسك بأخلاقيات النخبة الرعوية المقدسة شرطاً للنجاة بالدنيا والآخرة. ورفعت المعارضة السياسية للنخب الحاكمة نفس الشعار وهو دحض الحجة الدينية بالحجة الدينية المقابلة لها؛ وعليه ساد خطاب الإقصاء الديني والإقصاء الديني المضاد.
ولذلك فليس بالمستغرب أن يلاحظ المؤرخ العربي ابن خلدون، أنه لا يمكن توحيد العرب سياسياً إلا من خلال الدين. كما أنه لاحظ كذلك أن العرب، لم يبرزوا بمجال الفكر، فلسفة وعلوم دين ومنطق، والذين برزوا بها هم المسلمون من غير العرب. وأما العرب فبرزوا بالشعر فقط. وهذا ليس بالمستغرب، فالشعر هو الفن الوحيد الذي يتقنه ويطرب له الرعاة. وليس بالمستغرب كذلك أن يلاحظ المفكر عبدالله الغذامي، أنه حتى الشعر العربي، ينضح بتفخيم الأنا وتمجيد الفحولة. وعده سياقاً موازياً وداعماً لسياق الخطاب العربي السياسي التسلطي أكثر منه للأدب الإنساني.
كما أن المفكر محمد عابد الجابري، في مشروعه "نقد العقل العربي" نقد في جزءيه "نقد العقل المعرفي" و"نقد العقل السياسي" نقداً وافياً؛ حيث وجد مادة غنية لنقدها في هذين الجزءين. ولما شرع في جزئه الثالث "نقد العقل الأخلاقي" لم يجد مادة أخلاقية كافية يستطيع نقدها، حيث لم يجد منظومة أخلاق عند العرب.
ولم يجد لديهم سوى أخلاقيات، مثل الرجولة والشهامة والشجاعة والكرم، وهي شروط تشترطها مهنة الرعي على العاملين بها، أي أخلاقيات مهنة الرعي. ووجد أن أدبيات الأخلاق المتداولة وغير الفاعلة لديهم، ما هي إلا أدبيات ترجمت من الحضارات الفارسية واليونانية والهندية.
ولذلك فليس بالمستغرب أن لا تهز قضية أي مجزرة تحدث في بلد عربي يروح ضحيتها مئات الأطفال والنساء والرجال العزل، لا الرأي ولا الضمير العربي. وتعصف في وجدانهم قضية فتاة، تسكن منعمة بدولة غربية، يطلب منها، لدواع أمنية أو تنظيمية أن تخلع نقابها أو حجابها، وتصبح قضيتهم الشاغلة لهم دون غيرها من قضاياهم المصيرية.
فالأولى تنتمي لمنظومة الأخلاق حفظ الحياة والحق في العيش الإنساني الكريم؛ حيث لا وجود لها في ضميرهم الجمعي؛ والثانية تنتمي لمنظومة أخلاقيات الرعاة، وهي الخروج على أعراف وتقاليد وشروط القبيلة، الحاضنة والمستأمنة على مراعاة وحفظ أخلاقيات الرعي.