كرة القدم والهويات القاتلة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
السيد ولد أباه
كتبت صحيفة "الخبر" الجزائرية في صفحتها الأولى بالعنوان العريض يوم المباراة الأخيرة بين الجزائر ومصر: "اليوم يوم الانتقام منكم يا آل فرعون". شكلت الحكومة الجزائرية "خلية حرب" لتحضير المباراة، وكلف الرئيس "بوتفليقة" شقيقه ومستشاره لقيادة وفد رسمي وشعبي كبير للخرطوم مصحوبا بحماية أمنية كثيفة. في مصر تحولت المباراة إلى حدث سياسي محوري، استأثر باهتمام الساسة والإعلام، وسافر للخرطوم الفنانون والممثلون ونواب البرلمان وحاول زعماء "الإخوان "أن ينالوا شرف المشاركة في المواجهة المرتقبة. أما البلد المضيف(السودان) فقد عقد جلسة حكومية طارئة لتنظيم المباراة التي غطت على كل الأحداث الدولية الكبرى. وصلت الأمور إلى استدعاء السفراء والمطالبة بقطع العلاقات، شهرت السيوف ورميت الحجارة، بكى الرجال وزغردت النساء، وتضاربت الآراء حول حجم الاعتداءات والإضرار. أفضى المشهد إلى خطاب مشهود للرئيس مبارك أمام البرلمان يوم 21 نوفمبر الحالي يتوعد من يهين "كرامة مصر والمصريين" .
صحيح أن ظاهرة العنف المصاحب للسباق الرياضي ليست بالجديدة، خصوصاً مباريات كرة القدم التي كثيراً ما تؤجج المشاعر الوطنية المحمومة وتولد الكراهية والأحقاد. فخلال مونديال 1969 الذي جرى في المكسيك اندلعت حرب فعلية بين السلفادور وهندوراس خلفت ثلاثة آلاف قتيل من الجانبين. أما الحرب العرقية في يوغسلافيا السابقة، فقد انعكست في بدايتها في فرق كرة القدم، التي كانت بؤرة رئيسية لتفجير النوازع القومية العدوانية.
والواضح أن الأنظمة السياسية كثيراً ما تسعى لتوظيف واستغلال هذا الشعور القومي لأغراض التعبئة السياسية، أو تغطية نواقص الشرعية أو تأجيج شعور الكراهية اتجاه الآخر. حدث الأمر في إيطاليا أيام "موسيليني" وفي إسبانيا خلال عهد "فرانكو"، وفي الأرجنتين خلال مباراة كأس العالم سنة 1978.
وفي فرنسا، تضاعفت شعبية الرئيس السابق "جاك شيراك" إثر انتصار فريق كرة القدم الفرنسي في مونديال 1998، الذي استضافته فرنسا، وحول يوم المباراة إلى عطلة معوضة احتفاء بالحدث الذي اعتبرته إحدى الصحف الباريسية "أسعد حدث في فرنسا بعد يوم التحرير من الاحتلال الألماني". وعندما انتصر البلد الأفريقي الصغير "السنغال" على مستعمره السابق "فرنسا" في مونديال 2002، علق الرئيس "عبدالله واد" على الحدث السعيد قائلاً :"ها نحن تغلبنا على عقدة المحتل، وكسرنا عقدة التفوق الأوروبية"، في الوقت الذي نقل الجمهور الفرنسي تشجيعه للفريق الفرانكفوني الوحيد الباقي في السباق.
وفي المقابل، قد تغدو كرة القدم ورقة رابحة للمقاومة والنضال السياسي السلمي المنظم. ففي الجزائر، تشكل فريق وطني قبل الاستقلال أدى دوراً مهماً في غرس وتجذير النزعة الوطنية والتعريف بالقضية الجزائرية في باقي العالم. وفي كاتالونيا الإسبانية أيام فرانكو، كانت الملاعب المكان العمومي الوحيد الذي يسمح فيه بالنطق باللغة الكاتالونية. وفي إيران، لم تتمكن قوات الأمن من التصدي لأول مظاهرات مختلطة بين الجنسين، اندلعت تشجيعاً لفريق كرة القدم الإيراني. وهكذا أصبحت الملاعب الرياضية من فضاءات الحرية القليلة المتاحة في بلاد الملالي.
لهذه الظاهرة جوانب أربعة تستدعي وقفة تحليل:
أولها:يدخل العنف الرياضي في باب الظاهرة الانثربولوجية المعروفة التي أطلق عليها الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي "رينيه جيرار" عبارة "عنف المحاكاة"، بمعنى اندلاع الصدام والصراع نتيجة لتجانس وتشابه عناصر المجموعة، مما يتطلب نقل هذا العنف الداخلي إلى الآخر. فالكرة من هذا المنظور تؤدي دور "قربان الضحية" في التقاليد البدائية السابقة، وتساهم في تحويل مجرى العنف الذي احتكرته الدولة، ولذا كان العنف الرياضي من ضروب العنف القليلة الخارج عن تحكم هذه الدولة، حتى في الدول الديمقراطية الكبرى (كبريطانيا مثلاً التي عرفت بقساوة وعنف جمهورها الرياضي).
ثانيها: تتقاسم كرة القدم مع السياسة خصائص جلية، مثل الطاقة التحشيدية، والسمة التعبوية، والفاعلية التنظيمية، والانشداد للزعامة الكارزمية. ولقد تزايد دور كرة القدم في الشأن السياسي في السنوات الأخيرة، إلى حد أن بعض مراقبي الشأن الإيطالي أرجعوا شعبية رئيس الحكومة "برلسكوني" إلى نجاحات وشعبية ناديه (نادي ميلانو)، مدللين على أنه اختار شعار الفريق شعاراً لحزبه وحملته الانتخابية، واسند لنجوم الرياضة أدواراً سياسية صريحة، فكانت كرة القدم مدخله للعرين السياسي الذي لم يكن مهيأ لولوجه.
ثالثها: تشكل كرة القدم إحدى القنوات الرمزية القليلة المتاحة لمعايشة التجارب الإنسانية العميقة في عصر التقنية التنميطية والعولمة الزاحفة. ففي عصر اختفت فيه البطولة والأبطال وانحسر فيه الخارق والغريب، وتحولت فيه الحرب إلى عملية بوليسية تدار بأزرار اليد، تولد الكرة وهم البطولة والزعامة، وتكرس قيم التضامن والشرف، وتجذر عواطف المحبة والكراهية والإعجاب. فأبطال الكرة هم مزيج من "القديسين" وحراس البوابة الوطنية وشخصيات الأساطير الخارقة.
أما الجانب الرابع، فيتعلق بخصوصية الحالة العربية. فلقد أظهرت المباراة الأخيرة بين الجزائر ومصر حجم تجذر النزعة الوطنية الضيقة في بلدين عربيين كبيرين يجتمعان في أنهما كانا يقدمان قاطرتين للوحدة العربية وحاملتين للمشروع القومي الاندماجي. فعلى الرغم من حيوية واستمرارية الفكرة القومية في الشارع العربي(كما أظهرت كل قياسات الرأي وشتى الدراسات الميدانية في عموم البلدان العربية)، يبدو من الجلي أن الدولة الوطنية الحديثة نجحت بقوة في توطيد حضورها في الوعي والمخيال، ووظفت الشعار القومي نفسه في تدعيم شرعيتها(مفهوم الزعامة الإقليمية). ونقطة التحول التي يتعين التنبيه إليها هي أن الهوية الوطنية بدلالتها الجديدة فاقدة لمبدأ الكونية والمنظور الإنساني اللذين طبعا النزعة الوطنية في الأمم الأوروبية الحديثة التي شهدت تشكل وانبثاق نموذج الدولة- الأمة على أنقاض الإمبراطوريات الدينية الوسيطة. إن الأمر يتعلق هنا بما دعاه الكاتب والروائي اللبناني "أمين معلوف" بـ "الهويات القاتلة"(عنوان أحد كتبه الشهيرة). إنها نمط من الهويات الاقصائية، تقوم على إنكار الآخر والانكفاء على الخصوصيات الضيقة. فهي إذن أقرب للانتماءات القبلية بنعراتها المتعصبة ونرجسيتها المفرطة. وذلك هو الدرس القاسي الذي كشفته تلك المباراة التي لها ما بعدها.
التعليقات
مقتبس
مصطفى -لا أريد أن أطيل عليكم فخير الكلام ما قل ودل أو( كلمتين وبس ) على رأى فؤاد المهندس و( حنجيب ما الأخر ) مبارتا مصر والجزائر الأخيرتين كانتا خلاصة الفصل الأخير بكتاب دسم مخلوط لعدة مؤلفين ، وللأسف مهما سمعنا من الإخوة في مصر ورغم نشاط إعلامهم الهرم إلا أنه لم يكن بالمستوى المطلوب ولا حتى دون المعقول فكان عبأ ثقيلا عليهم فيبدو أن مصر ستدفع ثمن غباء إعلامها الذي حاول أن يركب موجة قطار التوظيف والتوريث وركبها فعلا لكن ليس بالدرجة الأولى ولا الثانية ولا حتى الأخيرة وإنما كان على سطح القطار ( بسائق مخبول وكمسرى مهموم ) . فبغض النظر عن المبارتين وما دار بهما فالخاسر الأكبر هو مصر وحدها دون غيرها لأنها ومن خلال إعلامها خسرت المشجعين العرب المتعاطفين معها دائما . هنا على سبيل المثال بمدينتي والتي كانت تعد معقل من معاقل أنصار الكرة المصرية خرج أبناؤها فرحين بسيارتهم وعلى أرجلهم يهللون وينشدون للجزائر ويرفعون أعلامها المرفرفة ومنهم مشجعون متطرفون لمصر والسبب كما يقولون ــ الإعلام المصرى ـــ وتعاطيه مع المباريات . وهنا سأترك الجانب الرياضي وأطرح ما يمكن أن نسميه استنتاج ما وراء المباراة والذي يبين أن الإعلام المصري المسخر أراد استثمار المباريات قبل وبعد إقامتها فضحى بعلاقة مصر التاريخية مع الجزائر الشقيقة التي تربطهما مصالح ومواقف طيبة عبر التاريخ . أرى أن الشيخوخة قد طالت الإعلام المصري بعد الثورة الإعلامية وتكنولوجيا المعلومات فلم يعد ذلك الإعلام منفردا بالساحة كما كان من قبل وهو سر نجاحه واستحواذه على المواطن العربي تماما كما حدث للسينما المصرية هي الأخرى والتي ظهرت عليها بوادر الترهل وطغت من خلالها بثور وتجاعيد الزمن مقارنة بالانطلاقات الشابة المجددة التي فرضت نفسها وأسندت لها أعمال ذات خصوصية كبرى بالتاريخ المصري كفلم الملك فؤاد سيرة حياة مشاهير مصريين وغيرها والحبل على الجرار . ألا يستدعى ذلك مراجعة شفافة وواقعية للإعلام المصري فيعيد ترتيب أوراقه ويقرأ الصور كما هي من الأمام لا من الخلف حتى تستعيد مصر دورها الريادي كما كانت بحقبة الستينات والسبعينات وليعيدوا قراءة الواقع بدون السبعة ألاف سنة وتعداد السكان مع إهمال مدلولات الشقيقة الكبرى ووو. والدليل على ذلك أن إمارة صغيرة كقطر الآن تزاحم مصر في عدة أمور كثيرة وأخرى على الطريق فلم يعد خطاب أحم
مقتبس
مصطفى -لا أريد أن أطيل عليكم فخير الكلام ما قل ودل أو( كلمتين وبس ) على رأى فؤاد المهندس و( حنجيب ما الأخر ) مبارتا مصر والجزائر الأخيرتين كانتا خلاصة الفصل الأخير بكتاب دسم مخلوط لعدة مؤلفين ، وللأسف مهما سمعنا من الإخوة في مصر ورغم نشاط إعلامهم الهرم إلا أنه لم يكن بالمستوى المطلوب ولا حتى دون المعقول فكان عبأ ثقيلا عليهم فيبدو أن مصر ستدفع ثمن غباء إعلامها الذي حاول أن يركب موجة قطار التوظيف والتوريث وركبها فعلا لكن ليس بالدرجة الأولى ولا الثانية ولا حتى الأخيرة وإنما كان على سطح القطار ( بسائق مخبول وكمسرى مهموم ) . فبغض النظر عن المبارتين وما دار بهما فالخاسر الأكبر هو مصر وحدها دون غيرها لأنها ومن خلال إعلامها خسرت المشجعين العرب المتعاطفين معها دائما . هنا على سبيل المثال بمدينتي والتي كانت تعد معقل من معاقل أنصار الكرة المصرية خرج أبناؤها فرحين بسيارتهم وعلى أرجلهم يهللون وينشدون للجزائر ويرفعون أعلامها المرفرفة ومنهم مشجعون متطرفون لمصر والسبب كما يقولون ــ الإعلام المصرى ـــ وتعاطيه مع المباريات . وهنا سأترك الجانب الرياضي وأطرح ما يمكن أن نسميه استنتاج ما وراء المباراة والذي يبين أن الإعلام المصري المسخر أراد استثمار المباريات قبل وبعد إقامتها فضحى بعلاقة مصر التاريخية مع الجزائر الشقيقة التي تربطهما مصالح ومواقف طيبة عبر التاريخ . أرى أن الشيخوخة قد طالت الإعلام المصري بعد الثورة الإعلامية وتكنولوجيا المعلومات فلم يعد ذلك الإعلام منفردا بالساحة كما كان من قبل وهو سر نجاحه واستحواذه على المواطن العربي تماما كما حدث للسينما المصرية هي الأخرى والتي ظهرت عليها بوادر الترهل وطغت من خلالها بثور وتجاعيد الزمن مقارنة بالانطلاقات الشابة المجددة التي فرضت نفسها وأسندت لها أعمال ذات خصوصية كبرى بالتاريخ المصري كفلم الملك فؤاد سيرة حياة مشاهير مصريين وغيرها والحبل على الجرار . ألا يستدعى ذلك مراجعة شفافة وواقعية للإعلام المصري فيعيد ترتيب أوراقه ويقرأ الصور كما هي من الأمام لا من الخلف حتى تستعيد مصر دورها الريادي كما كانت بحقبة الستينات والسبعينات وليعيدوا قراءة الواقع بدون السبعة ألاف سنة وتعداد السكان مع إهمال مدلولات الشقيقة الكبرى ووو. والدليل على ذلك أن إمارة صغيرة كقطر الآن تزاحم مصر في عدة أمور كثيرة وأخرى على الطريق فلم يعد خطاب أحم