جريدة الجرائد

الطيب صالح ومفارقاته اللندنية

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

عبد الباري عطوان

قبل عشر سنوات تقريباً دعيت إلى جامعة أكسفورد البريطانية العريقة للمشاركة في ندوة حول صورة العرب في الغرب، إلى جانب العديد من الأساتذة والمختصين من مختلف الجامعات الأوروبية والبريطانية، علاوة على الأمير الحسن بن طلال الذي كان حينذاك لا يزال ولياً لعهد الأردن.
رئيس قسم الدراسات الشرقية في الجامعة واسمه ديرك هوبوود فجر قنبلة من الوزن الثقيل في الندوة، عندما قال ان الطلاب العرب يأتون إلى الجامعات البريطانية ليس من أجل الدراسة والتحصيل العلمي، وانما لمضاجعة الفتيات البريطانيات الشقراوات للانتقام من المستعمر البريطاني الذي احتل بلادهم.
البروفسور هــــوبوود عـــزز نظريته هذه بتأليف كتاب تحت عنوان Sexual Encounters in the Middle East، فسر فيه التاريخ الشرق اوسطي من زاوية العلاقات الجنسية للشخصيات السياسية الرئيسية التي لعبت دوراً في أحداث المنطقة على مر العصور.
قنبلة البروفسور المذكور، وتفسيره الجنسي للتاريخ أثارا جدلاً ساخناً في تلك الندوة، خاصة من جانب المشاركين العرب الذين فوجئوا بمثل هذا الطرح المهين، وتصدوا بشراسة لصاحبه، ونظرته الدونية، وميوله ذات الشبهة العنصرية الاستفزازية لمشاعرهم.
تذكرت الأديب الكبير الطيب صالح آنذاك، وروايته العالمية الشهيرة 'موسم الهجرة إلى الشمال'، التي ترجمت إلى 65 لغة، وبطلها مصطفى سعيد الذي ذهب إلى الجامعات البريطانية لجمع الحسنيين، أي التحصيل العلمي العالي واثبات فحولته الجنسية مع نساء بريطانيا 'البضات' انتقاما لاحتلال بلاده.
فالطيب صالح كان، بطريقة أو بأخرى، يكتب سيرة بطل روائي تشبه ربما سيرته، مع بعض البهارات الدرامية والتخييل الذي لا بدّ منه للعمل الروائي، لكنه لم يكن مسكوناً بهاجس الجنس مثل بطل روايته، فقد تزوج من أول سيدة اسكتلندية أحبها، وقد زرته في منزله في ضاحية ويمبلدون جنوب العاصمة أكثر من مرة، بصحبة صديقه الأديب والممثل والكاتب نديم صوالحة.
اعترف أنني تأثرت كثيراً بأدب الطيب صالح، فقد كان لدي ميل لكتابة القصة القصيرة بدأ منذ دراستي الآداب قسم الصحافة في جامعة القاهرة، وواصلت كتابتها بعد انتقالي إلى لندن في أواخر السبعينات من القرن الماضي، وحاولت محاكاة اسلوبه في عدد من القصص المستوحاة من الأجواء اللندنية والعواصم الأوروبية الأخرى بحكم ترحالي كصحافي، ونُشر بعضها في مجلة 'العربي' الكويتية، وبعضها الآخر في الملحق الأدبي لصحيفة 'المدينة' السعودية الذي كان يشرف عليه الأديب السوداني الراحل سباعي عثمان، ولكني توقفت لعدة أسباب أهمها ان الصورة لا يمكن ان تضاهي الأصل أو حتى تقترب منه، ولان الهم السياسي تفوق وانتصر، حتى ان المرحوم سباعي عثمان كتب مقالاً أشار فيه إلى ما وصفها بموهبة أدبية قتلتها السياسة.
تعرفت إلى الأديب الكبير للمرة الأولى في مطلع الثمانينات، وعن طريق الصدفة المحضة، فقط كنت أعمل مديراً لتحرير مجلة 'المجلة' في عصرها الذهبي عندما كان يترأس تحريرها الصديق عثمان العمير. الزميل العمير كان في حينها معجباً بالرعيل الأول من المثقفين العرب، وخاصة الراحل أكرم صالح الذي جمعته به صداقة حميمة، فطلب من الأديب الساخر المرحوم أيضاً الزميل عوني بشير ان يسجل معه سلسلة من الحلقات حول ذكرياته، أي ذكريات أكرم صالح. ولكن عوني بشير استنكف ان يقوم بهذه المهمة مع 'معلق رياضي' وقال انه أكبر من ذلك.الزميل العمير طلب مني أن اتولى الأمر، وبالفعل سجلت ما يقرب الأربع ساعات مع أكرم صالح، كانت حافلة بكل ما هو ممتع حول ذكرياته في الجامعة الأمريكية في القاهرة، حيث بدأ دراسته ولم يكملها بسبب حرب 1948، والتحاقه باذاعة الشرق الأدنى البريطانية، ثم اضرابه مع زملائه عن العمل بسبب الغزو البريطاني لقناة السويس. أكرم صالح كان يجسد الارستقراطية الفلسطينية، وعائلته كان يضرب بها المثل في الثراء، فقد كانت تملك معظم جبل الكرمل المطل على مدينة حيفا أجمل مدن البحر المتوسط.
أكرم صالح اضطر لقطع جلسات الحوار للعودة إلى الرياض حيث كان يعمل من أجل الاستقالة والعودة إلى لندن، وهو الذي كان يحلم ان يموت ويدفن في أرض عربية، بسبب طبيعة مزاجه الحادة، وبعض المضايقات في العمل، ولكنه لم يعد وباغتته أزمة قلبية حادة أدت إلى وفاته ودفنه في الرياض.
اكراماً لأكرم صالح نشرنا الحلقات في مجلة 'المجلة'، وكانت من أجمل ما كتبت في حياتي، لمفارقاتها الغريبة، وفوجئت بالأديب الكبير الطيب صالح يهاتف رئيس التحرير، ويهاتفني من أجل كتابة سلسلة حلقات عن أيامه في لندن في القسم العربي لمحطة اذاعة 'بي بي سي' وصداقته مع أكرم صالح.
الحلقات كانت من عيون الأدب، وتعكس خفة دم غير مسبوقة. وما أذكره منها، لحظة وصفه لوفاة أحد زملائه المسلمين وكان من مصر الشقيقة، واصراره في وصيته ان يدفن على الطريقة الاسلامية. المفاجأة ان معظم زملائه لم يكونوا من المتدينين، ولا يعرفون مراسم الدفن وواجبات التغسيل والتكفين والتلاوة المرافقة في الحالين، فعدد المسلمين في لندن (أواخر الخمسينات) كان محدوداً جداً، ولا توجد مساجد، وهؤلاء لا يعرفون أداء الصلوات العادية، ناهيك عن صلاة الميت. وبلغت المفارقة ذروتها عندما ذهبوا إلى المقبرة، وتساؤلهم هل يجوز دفنه مع 'الكفار' الانكليز وكيف؟ والأهم من ذلك أين يوجهون الرأس وكيف يكون الشاهد؟ وتفاصيل كثيرة عن حيرتهم وجهلهم، دوّنها بطريقة رائعة، وبأسلوب أدبي ساحر.
اعجابنا بهذه الحلقة على وجه التحديد تبخر عندما اعترضت الرقابة في السعودية على كل هذه التفاصيل، لان المذهب الوهابي لا يقبل بثقافة القبور هذه ويعتبرها بدعة. وأصر الرقيب على حذف كل هذه المقاطع، والا لا حلقة ولا نشر. الطيب صالح من جانبه قال اما ان تنشر كلها دون حذف أو لا تنشر على الاطلاق. رئيس التحرير وقع في حرج كبير، وبعد اتصالات مع علية القوم جرى ايجاد مخرج، وهو ان تفاصيل الحكاية وقعت في لندن في بلاد 'الكفار'، ويبدو ان هذا التفسير 'غير الوهابي' انقذ الحلقة، ورئيس التحرير، وبعدها أصبح الطيب صالح كاتباً منتظماً في المجلة.
وللتاريخ فان الرجل لم يطلب مالاً على الاطلاق، سواء مقابل الحلقات المذكورة، او كتابته للصفحة الأخيرة في المجلة بشكل اسبوعي. وعندما جرى تحديد مبلغ المكافأة الشهرية لم يساوم على الاطلاق، ولم يناقش الأمر مثل بعض الكتاب الآخرين.
الطيب صالح كان مغرماً بأبي الطيب المتنبي، والقى محاضرة عنه في المركز الثقافي السعودي، بدعوة من الدكتور غازي القصيبي، كانت من أجمل ما سمعت في حياتي، فقد كان خفيف الظل في طرحه، ممتعاً في تحليله لشخصية الشاعر الكبير وظروفه، وكانت حسرته الوحيدة ان ابا الطيب لم يزر السودان، وقال ان عزاءه ان ناقته 'بجّاية' كانت سودانية. وأكد انه، اي المتنبي، لم يكن ينطلق من نزعة عنصرية عندما هاجم كافور الاخشيدي ووصفه بالعبد. وقال من كان سيعرف كافور هذا أساساً او يتذكره لو لم يهجه المتنبي.
رحم الله الطيب صالح، الذي كان مثل الغالبية الساحقة من أبناء السودان، قمة في التواضع وهو المبدع الكبير، وعاش حياة بسيطة هادئة، محاطاً بمجموعة صغيرة من الأصدقاء وفي البيت نفسه، وكم كنت أتمنى لو انه حصل على جائزة نوبل في الأدب تكريماً لمسيرته، ولكنه مع ذلك يسجل له انه جدّد دم الرواية العربية وأضاف إليها نكهة لم تكن تعرفها من قبل.
لا أعرف أين سيدفن أديبنا الكبير، ولكن ما أعرفه انه أياً كان المكان، فإنه لن يواجه المعضلة التي واجهها زميله وأصدقاؤه في أواخر الخمسينات، حيث سيلقى كل الحفاوة والتكريم، وسيتحول قبره إلى مزار للملايين من عشاق ابداعه.


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
------
Mohamad -

مقال جميل يا أستاذ عبد الباري، أرجو أن تخصص مقال مرة في الأسبوع للحديث عن الأمور الغير سياسية، لغتنا جميلة وأدبنا جميل، فلنأخذ إستراحة.

------
Mohamad -

مقال جميل يا أستاذ عبد الباري، أرجو أن تخصص مقال مرة في الأسبوع للحديث عن الأمور الغير سياسية، لغتنا جميلة وأدبنا جميل، فلنأخذ إستراحة.

مداخله
أحمد عقيلي -

الاستاذ عبد الباري عطوان مالك ومال الوهابية كما تسميها الا تعتقد انها هي سنة النبي محمد ابن عبد الله ص وانت المثقف الواعي اسال الله لك الهداية

شكر للاخ عبد الباري
العبيد حسان البشير -

هذا مقال جميل ياأستاذ عبد الباري والجمال فيه يكمن في قولك ( من أجمل ماسمعت )وكمان قولك مثل الغالبيه العظمى من أهل السودان قمة في التواضع نحن السودانيين يعجبنا جدا هذا الكلام لانه يلامس الحقيقة وأزيدك من الشعر بيت اننا في السودان كلما ذاد الانسان علما تجده يزداد تواضعا وأضم صوتي لصوت المعلق أن تهتم بأمور اخرى بجانب السياسة لان فيها نكد كثير وذاك من أجل أن نحافظ عليك لمدى أطول . ونسال الله ان يتقبل أخونا الطيب الذي عاش طيبا ومات طيبا ونسأل الله أن يجعله من الطيبين عندة اللهم آمين .

كان الطيب رجلا امه
عمر شنيبو -

شكرا الاخ عبدالباري لقد عرفناك سياسيا مناضلا واديبا مثقفافقدكان الطيب رجلا امه يمشي بيننا ويكفي انه يقول انه تربالي انظر لهذا التواضع اخي ان العظماء لايموتون

شكر للاخ عبد الباري
العبيد حسان البشير -

هذا مقال جميل ياأستاذ عبد الباري والجمال فيه يكمن في قولك ( من أجمل ماسمعت )وكمان قولك مثل الغالبيه العظمى من أهل السودان قمة في التواضع نحن السودانيين يعجبنا جدا هذا الكلام لانه يلامس الحقيقة وأزيدك من الشعر بيت اننا في السودان كلما ذاد الانسان علما تجده يزداد تواضعا وأضم صوتي لصوت المعلق أن تهتم بأمور اخرى بجانب السياسة لان فيها نكد كثير وذاك من أجل أن نحافظ عليك لمدى أطول . ونسال الله ان يتقبل أخونا الطيب الذي عاش طيبا ومات طيبا ونسأل الله أن يجعله من الطيبين عندة اللهم آمين .

عـُد الى الأدب
شاعر -

لأول مرة أقرأ لك مقالاً من دون منغصات . يا أخي استمر بكتابة هكذا مقالات جميلة، بل ما رأيك أن تعود الى الأدب و تترك السياسة ؟

HIS LAST RADIO INTER
MOHAMED -

لكل محبي و عشاق الراحل العبقري يمكنكم متابعة حديث إذاعي مطول أجريته معه منذ سنوات لإذاعة صوت العرب طرح فيه عددا من آراءه الفكرية و الأدبية البرنامج اسمه هذه رؤيتي و يذاع مساء السبت التاسعة و خمس دقائق مساء بتوقيت القاهرة على الموجة الإذاعية 621 AMو على ترددات النايل سات تردد الفضائية المصرية . تحياتي لكم و دعواتي للفقيد بالرحمة و لعشاق فنه بالصبر ABDUL-AZIZ

HIS LAST RADIO INTER
MOHAMED -

لكل محبي و عشاق الراحل العبقري يمكنكم متابعة حديث إذاعي مطول أجريته معه منذ سنوات لإذاعة صوت العرب طرح فيه عددا من آراءه الفكرية و الأدبية البرنامج اسمه هذه رؤيتي و يذاع مساء السبت التاسعة و خمس دقائق مساء بتوقيت القاهرة على الموجة الإذاعية 621 AMو على ترددات النايل سات تردد الفضائية المصرية . تحياتي لكم و دعواتي للفقيد بالرحمة و لعشاق فنه بالصبر ABDUL-AZIZ

دع عنك مايسؤك .
ناجي عامد -

الأستاذ عبدالباري مع إختلافي الكامل مع توجهك الفكري ، إلا أنني أجد ان هذا المقال هو من أهم المقالات التي قراءتها لك ، فليتك كما أشار صاحب التعليق الأول ، أن تخفف قليلاً من المقالات السياسية وتكتب لنا مثل هذه المقالات الأدبية الجميلة ، ولك كل الود رغم الإختلاف .

الى التعليق 2
احمد حسن الاصلي -

من قال لك ان الوهابية هي سنة الرسول ص؟؟؟؟؟ لوكانوا الرسول ص بهذا التحجر الفكري لكان الاسلام في خبر كان.

هجرة
ابراهيم الدقس -

وداعا للطيب ....وتحية للمهاجرين اللذين يحملون اوطانهم في قلوبهم,,,في كل المواسم والجهات .

لا اصدق
rashow alias -

هذا الوديع , الهادئ , اللطيف , المتزن , المسالم , الذي لا يبعث السموم في هذه المقالة .يا اخي بلاش جرجرة بالسياسة اللي ما استفادينا منها .اكتب عن الادب والشعر والشعراء لعل وعسى ان تهدأ قليلا . والدنيا ما تسوى يا عبد الباري كما نقول نحن العراقيون

هجرة
ابراهيم الدقس -

وداعا للطيب ....وتحية للمهاجرين اللذين يحملون اوطانهم في قلوبهم,,,في كل المواسم والجهات .

ياريت تتفرغ الادب...
س .السندي -

ياريت تتفرغ للادب وعلوم الناس... وتريح خلق الله من وجع الراس

وفاة الطيب صالح
ابوعنتر -

اذا كان الاديب الطيب صالح شكل علامة بازرة فى الادب العربي والعالمى يكفى أنه أختير من بين مائة من كتاب الرواية فى تاريخ البشرية فى القرن الماضى ، فهذا الرجل المتواضع الذى يعد مفخره لهذه الامة التى تناست قيمتها الأدبية بفعل النظم السياسية ومشكلاتها التى عصفت بالادباء والمثقفين ،ندعو الاستاذ عبدالبارى عطون ان يبحر بنا إلى عالم الادب بعد ان ابحر بنا الى دهاليز السياسة .رحم الله الأديب الطيب صالح .

ياريت تتفرغ الادب...
س .السندي -

ياريت تتفرغ للادب وعلوم الناس... وتريح خلق الله من وجع الراس

taib
ok -

ok

taib
ok -

ok

سبحان الله
علي -

سبحان الله. الأستاذ عبد الباري عطوان المشهور بتشنجه يكتب هكذا مقال ؟!! والله لم أصدق عيني في البداية. أترك السياسة يا أستاذ عبد الباري قليلا وأكتب في هكذا ميادين