جريدة الجرائد

أوباما: تعادلية غير عادلة

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك


23-06-2009

خطاب أوباما: تعادلية غير عادلة

محمد عابد الجابري


خطاب أوباماهو خطاب المؤسسة الحاكمة في أميركا، أعني الجماعات صاحبة النفوذ التي تمارس السلطة من خلال الكونغرس، سواء كانت تنتمي للحزب الديمقراطي أو للحزب الجمهوري، وبالتالي فليس من الضروري الاهتمام بـ"نوايا" من ينسب إليه نص هذا الخطاب. إن النص الذي بين يدي هو النص الرسمي الذي وزع قبل إلقاء أوباما خطابه في جامعة القاهرة. وليس ثمة اختلاف يذكر -على مستوى المضمون، وفي الغالب على مستوى العبارة كذلك- بين النص الذي تفوّه به أوباما (ولا أقول ارتجله) وبين النص الرسمي الذي أُعِدَّ مسبقاً (أعده "الخبراء" في إدارته ومن استعانت بهم، بمن فيهم أوباما نفسه).

خطاب أوباما إذن "خطاب مؤسساتي"، ويمكن إسقاط اسم أوباما والاكتفاء بالنص وحده بوصفه يقدم استراتيجية الإدارة الأميركية لما يسمى "عهد ما بعد مرحلة بوش". وأنا هنا ألحّ على هذه النقطة كي لا ننساق إلى ما يمكن التعبير عنه بـ"قراءة نوايا أوباما" كشخص، وسنرى من خلال تحليل هذا الخطاب أن أوباما كشخصية، الذي كانت له أثناء حملته الانتخابية مواقف وآراء مختلفة وأحياناً مستقلة، قد ذاب في بنية النص العميقة وهي الأهم، وإن كان له حضور في بنيته السطحية، حضور مهزوز يطفو بين نتوءات النص وحفره.


ادعاء التعادل بين الإسلام وأميركا عملية غير عادلة: فالدين شيء والدولة شيء آخر، والقياس لا يصح إلا بين أشياء من طبيعة واحدة.


ويتميز نص "خطاب أوباما" بخاصية أساسية هي: التضخيم والإطناب amplification على مستوى العبارة (أو البنية السطحية) والإفقار والاقتضاب rareacute;faction على مستوى المضمون (أو البنية العميقة). وفيما يلي البيان:

إن بنية هذا الخطاب بنية تقليدية: المقدمة، مسائل الموضوع، وأخيراً الخاتمة. ولذاك يسهل استعادته استعادة شبه حرفية، عند إلقائه بدون ورقةhellip;

1- أما المقدمة فموضوعها دعوة المسلمين إلى تدشين مرحلة جديدة بين "الإسلام" والولايات المتحدة الأميركية، مرحلة على أساس المصارحة والمصالحة واعتبار المصالح المشتركة، وما يؤسس هذه الدعوة ويبررها، في نظر "صاحب الخطاب" هو كونها تقوم على العناصر التالية:

أ- هناك توتر بين "الإسلام" والولايات المتحدة يعود إلى قرون لأسباب مختلفة، أهمها الاستعمار الغربي وتحديات الحداثة والعولمة (الأميركيتين)، فكان رد الفعل عند بعض المسلمين هو الاعتقاد بأن الغرب جملة مُعادٍ للإسلام. وهذا ما استغله المتطرفون من المسلمين، وهم أقلية، فمارسوا ذلك العنف الفظيع يوم 11 سبتمبر، مما حدا بالبعض في أميركا إلى الاعتقاد بأن الإسلام مُعادٍ ليس لأميركا والغرب فحسب بل أيضاً لحقوق الإنسان... الخ؟ لكن هذا العنف لا يعبر عن حقيقة الإسلام، فالإسلام دين التعايش والتشارك ويدعو إلى "اتقاء الله" في العمل والتزام "السداد" وعدم الغلو في القول.

ب- وهذا يقدمه "خطاب أوباما" على أنه ليس "مجرد كلام"، بل على أنه اقتناع أكسبته إياه تجربته الشخصية: تجربة رجل خالط الإسلام على مستوى أسرته وأسفاره وإقامته خارج أميركا. ويستخلص صاحب الخطاب من ذلك النتيجة التالية وهي أن العلاقة مع العالم الإسلامي يجب أن تبنى على ما يشكل حقيقة الإسلام وهي أنه دين التسامح والتشارك والتساكن ونشدان الطريق المستقيم، الشيء الذي يشهد له به تاريخه المديد.

ج- وهذه القيم الإنسانية التي تحلى بها الإسلام (طوال تاريخه) تجد ما يعادلها في حاضر الولايات المتحدة الأميركية وبالتالي يجب النظر إليها هي الأخرى كما هي "في حقيقتها"، أي بوصفها بلد التسامح الديني، هذا التسامح الذي جعل من الإسلام "جزءاً من أميركا" (مسلمون كثر ومؤسسات دينية إسلامية وعلاقات تاريخيةhellip;). وهذا التشابه بين "حقيقة الإسلام" و"حقيقة أميركا" يحتم على الطرفين التصدي للصور النمطية التي لدى كل منهما عن الآخر، والتي لا تعبر عن الحقيقة (وبعبارة الخطاب الإعلامي الأميركي: "المطلوب هو تحسين صورة الإسلام في الرؤية الأميركية، وتحسين صورة أميركا في الرؤية الإسلامية").

د- وبعد التأكيد على ضرورة التصدي للصور النمطية تلك، يجب كذلك التصدي للتحديات التي تواجه الشعوب جميعاً نظراً لارتباط عالم اليوم بعضه ببعض: و"من جملتها: إذا ضعف النظام المالي في بلد واحد أو إذا أصيب شخص واحد بالإنفلونزا (كما في أميركا)، تعرض الجميع للخطر. وإذا سعى بلد واحد وراء امتلاك السلاح النووي (إيران) فيزداد خطر وقوع هجوم نووي بالنسبة لجميع الدول (إسرائيل أساساً). وعندما يمارس المتطرفون العنف في منطقة جبلية واحدة (بأفغانستان وباكستان) فإن ذلك يعرض الناس فيما وراء البحار (في أميركا وأوروبا) للخطر. وعندما يتم ذبح الأبرياء في دارفور والبوسنة يسبب ذلك وخزاً في ضميرنا الإنساني المشترك.

واضح أن هذه التوازنات تفتقد إلى التكافؤ، فليس ما ينسب للطرف الأول موازناً لما ينسب للطرف الثاني، الفرق شاسع كماً وكيفاً.

تلك هي مقدمة الخطاب التي قلنا عنها إنها تدعو إلى المصارحة والمصالحة واعتبار المصالح المشتركة. وقبل الانتقال إلى "الموضوع" نرى من المفيد التعقيب عليها الآن حتى لا تنسينا "مسائل الموضوع" أهميتها الخاصة.

يمكن أن نلاحظ بادئ ذي بدء أنها تنتمي من حيث عبارتها إلى ما يسميه المناطقة الوضعيون و"المحللون الاستراتيجيون" في الولايات المتحدة الأميركية بـ"الإنشاء" أو "الخطابة" Rhetoric بالمعنى القدحي لهذين اللفظين، أي بوصفهما يعتمدان في الإقناع على "فائض" من الألفاظ"، وذلك على حساب الدقة في التعبير، والتحليل الملموس لوقائع ملموسة. إن التضخيم والإطناب يستران "فقر المعنى"...

هذا النوع من الخطاب/ الإنشاء يسمح بممارسة خفية لما يشتكي منه العرب وغيرهم من كون السياسة الأميركية تقوم على "ازدواجية في المعايير". وهذه الازدواجية تقوم هنا، وفي الخطاب كله، على ما يمكن أن نطلق عليه "تعادلية غير عادلة" وقد أشرنا إلى ذلك في سياق الفقرات السابقة. ونريد أن نضيف هنا أن وضع "الإسلام" (الدين) كما هو على حقيقته في كفة، وأميركا (الدولة والمجتمع) في الكفة الأخرى من الميزان وادعاء التعادل بينهما (أو المساواة في الوزن) عملية غير عادلة: فالدين شيء والدولة شيء آخر، والقياس لا يصح إلا بين أشياء من طبيعة واحدة. إن كيلو جراماً من الذهب قد يوازنه كيلو جرام من الحديد أو الرصاص! فهل من العدل تحويل هذه الموازنة على صعيد الكيل إلى تعادل في الكيف (القيمة). أضف إلى ذلك أن هذا التعادل يفتقد إلى العدل من جهة أنه قائم على الفصل بين ما هو من "حقيقة الإسلام" وما ليس من حقيقته. وهذا الفصل قد يجوز القيام به على مستوى الأحزاب والفرق والمذاهب داخل الإسلام، لأنه يمكن أن يدخل في الحق في الاجتهاد... الخ، أما أن يقوم به طرف يقع خارج الإسلام فشيء تلازمه شبهات... على أن أهم ما يعيب هذا الخطاب/ الإنشاء هو القفز على وقائع ملموسة هي التي كانت تقف أو على الأقل تغذي التوترات بين أميركا و"الإسلام"، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر أن التشهير بما يسمى "عداوة الإسلام لأميركا" لم يكن مرتبطاً بأحداث 11 سبتمبر الأليمة حقاً، لكن سبقه ما راج في الإعلام الأميركي من توقعات مغرضة عمن سيكون عدو الولايات المتحدة به سقوط الاتحاد السوفييتي. وكان الواقع يشير أولا إلى "الخطر الأصفر" (الصين) ثم إلى "الخطر الأخضر"، وقد حصل التركيز على هذا الأخير إلى درجة أن هنتينغتون عمد إلى صياغة نظرية "صراع الحضارات" وربطها بما سماه "الحدود الدموية" بين الإسلام والغرب... الخ. إن إشعال نار التوتر قد سبق حادثة 11 سبتمبر! هذا لاشك فيه.

مثال آخر: إن وضع الصورة النمطية عن الإسلام التي لدى بعض الأميركيين (ولا نقول كلهم) والصورة النمطية التي لدى بعض المسلمين عن أميركا، في كفتي الميزان عملية غير عادلة بالمرة، لأن الصورة الأولى ترسم وتصنع وتوزع على العالم عبر الأفلام الأميركية، بقصد التشويه، أما الصورة الثانية فهي رد فعل ميكانيكي رسخته في رؤية المسلمين السياسة الأميركية التي وقفت ضد قضايا العرب والمسلمين، مثل قضية فلسطين، وقضايا التحرر عموماً...

وما يهمني من إبراز هذه المثالب "الخطابية" ليس بعدها أو قربها من الحقيقة، -فميدان الخطابة ليس استخلاص حقائق ولا إثباتها، وإنما ميدانها توظيف أشباه الحقائق لإقناع المُخاطَب- ما يهمني هنا إذن، هو أن أشباه الحقائق المستعملة لا تفي بالغرض، لأنها تقوم على تعادلية غير عادلة.




التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
عين الحقيقة
نجم سهيل -

تحياتي لدكتور الجابري واحترامي لة , نعلم جميعا ان سعادة الريئس الاسود الطف كثيرا من سابقة واعمق نظرة لواقع الحال ( رغم ان بوش اكبر سننا منة) ,ولاكن هل يستطيع سعادتة كبح جماح الحلم الامريكي بالسيطرة على الفالم وحماية ربيبتة اليهودية ,اشك في ذلك .عندما دخل اللنبي القدس ماذا قال ( استطيع ان اقول الان ان الحروب الصليبيةانتهت ) وعندما دخل القائد غورو دمشق ماذا قال( بعد ان ركل قبر صلاح الدين ( غفر الله لة ) قال هانحن عدنا ياصلاح ) بزهو وفخر وغنفوان ,,,وعندما احتل بوش العراق ماذا قال اكيد تعرف ماذا قال .نحن في عالم القوي يحدد مصير الضعيف ويرسم لة خارطة الطريق , فالاخلاق وضعهاالنبلاء لسيطرة على الفقراء والمستضعفين .نعم لابد من القوة وقوتنا في اسلامنا وذاتنا واتحادنا وعلمنا وترواتنا فلابد ان ياتي اليوم الذي تنهض فية الامة الاسلامية وتقول انا موجودة واقرر مصيري بنفسي واجعل العالم يحترمني ويهابني بل يتجنبني خوفا مني , تحياتي وتقديري