تجريم الكراهية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
حمزة قبلان المزيني
من أكبر المشكلات التي تواجهنا الآن جرأةُ بعض المتحدثين على التطاول على الآخرين، مواطنين سعوديين وغير سعوديين، بنبزهم بألفاظ تحقِّرهم أو تحقر أديانهم أو مذاهبهم أو ألوانهم أو أعراقهم، أو غير ذلك.
ومن المستغرب أن يرتكب مسلمٌ هذه التصرفات المثيرة للكراهية بين الناس عموما، وبين المسلمين خصوصا، بل بين أبناء الوطن الواحد. ذلك أن مثيري الكراهية يعرفون الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي تنهى عن التنابز بالألقاب، وتؤكد أن الاختلافات بين الناس، في ألوانهم وأفكارهم وعقائدهم، من سنن الله تعالى، ويعرفون الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي تُبين عدمَ تعليق التفاضل بين الناس على أي من هذه الاختلافات، وتحذِّر من سب الآخرين المختلفين وشتمهم، حتى لو كانوا غير مسلمين. وقد شرع الإسلام عقوبات على بعض الممارسات، ومنها، مثلا، حدَّا اللعان والقذف.
لكن اجتناب كثير من هذه الممارسات المؤذية علِّق بتقوى الفرد وخوفه من الله تعالى وتوقيره لتلك النصوص الكريمة. ويُخشى أن يكون ارتكاب هذه الممارسات دليلا على أن مرتكبيها لم يبلغوا درجة التقوى التي تمنعهم عنها. وما دام أن تقواهم لم تمنعهم من التطاول على الناس فيَلزم تشريعُ قوانينَ واضحة تستند إلى تلك النصوص الكريمة لتجريم تلك الممارسات. ومن المؤكد أن هذه القوانين ستُسهم في تأسيس ثقافة متحضرة ربما تحدُّ منها.
ويبين أهمية تشريع مثل هذه القوانين نجاحُها في مجتمعات أخرى، ومنها المجتمع الأمريكي الذي واجه بها خطابات الكراهية المتأصلة فيه منذ قرون. فقد كان غارقا في العنصرية المتنوعة التي كان من أوضحها السخريةُ بأعراق "المهاجرين" وأديانهم ومذاهبهم. ومن ذلك السخريةُ باليهود، والآيرلنديين، والإيطاليين، واليونانيين، والبولنديين، و"الأتراك" الذين كان يعنى بهم "المهاجرون" من مواطني الدولة العثمانية، وكان المواطنون الأمريكيون من أصول إفريقية في أدنى سلَّم هذه القائمة.
لكن هذه العنصرية أخذت في الانحسار بفعل عوامل كثيرة. ومن أبرزها انفتاحُ المواطنين الأمريكيين من مختلف الانتماءات بعضهم على بعض في المدارس والجامعات وأماكن العمل.
لكن العامل الأهم هو ما تركتْه موجةُ الاحتجاجات المدنية للمطالبة بالحقوق الدستورية للمواطنين الأمريكيين من أصول إفريقية. وقد توِّجت تلك الاحتجاجات بصدور قوانين تشرِّع لمساواة هؤلاء بالمواطنين الأمريكيين الآخرين في حقوق التصويت وما يتبعها من حقوق الترشُّح للمناصب الحكومية على المستويين المحلي والفيدرالي.
وانعكس هذا النجاح على المجتمع بصفة عامة، فصدرتْ قوانين أخرى ضد مظاهر الكراهية والتمييز كلها. فقد شرِّعت قوانين "تجرِّم" التعدي اللفظي أو التمييز في العمل أو في الأجور على أساس العرق، أو الجنس أو الدين أو غير ذلك من الفوارق. وأدت تلك التشريعات الصارمة، ضد "جرائم الكراهية"، إلى الحد من المجاهرة بهذه المظاهر البذيئة خوفا من العقوبة، لكنها أدت، بمرور الوقت والإلزام القانوني بها، إلى تعزيز التحضُّر الذي يتمثل في امتناع الناس، طواعية، عن تحقير الآخرين، لا خوفا من العقوبة فقط، بل انطلاقا من تقديرهم لمشاعر مواطنيهم المختلفين عنهم بغض النظر عن ماهية الاختلاف.
ويمكن التمثيل على مستوى هذا التحضر ـ على الرغم من أوجه القصور الكثيرة ـ بردود الفعل الضخمة ضد تصريح السيناتور هاري ريد Harry Reid، زعيم الأغلبية الديموقراطية في مجلس الشيوخ، عن الرئيس أوباما، قبل أيام. فقد أورد كتابٌ عن السباق الانتخابي الأخير لرئاسة الولايات المتحدة تصريحا لريد يقول فيه إنه "يعتقد أن (الولايات المتحدة) جاهزة للقبول بمرشَّح رئاسي أسود، خاصة برجل أمريكي من أصول إفريقية، مثل أوباما، يتصف بأنه فاتح لون البشرة، ولا يتكلم بلهجة الزنوج". و"كان ريد مقتنعا بأن عِرق أوباما الإفريقي سيكون عاملا مساعدا لا ضارا في سعيه للفوز بتسمية الحزب الديموقراطي له مرشَّحا لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية" (واشنطن بوست، 10/1/2010).
وبعد أن ظهر هذا التصريح إلى العلن ضجت الولايات المتحدة استنكارا لهذه التعبيرات غير السائغة. وذلك ما اضطر ريد للاعتذار للرئيس أوباما وللشعب الأمريكي قائلا: "إني آسف أشد الأسف على اختياري غير الجيد للكلمات. وأنا أعتذر بشكل صادق عن إغضابي لأي أمريكي أو كل الأمريكيين، خاصة الأمريكيين ذوي الأصول الإفريقية، بتصريحاتي غير الملائمة". كما اتصل بقادة الحقوق المدنية وأعضاء مجلس النواب الأمريكي من أصول إفريقية معتذرا.
ومع ذلك فقد استغل خصومه السياسيون من الحزب الجمهوري خاصة هذا التصريح لأغراضهم السياسية. إذ صرح المتحدث باسم اللجنة البرلمانية الجمهورية الوطنية قائلا: "إلى الذين يأملون أن يعيشوا يوما ما في وطن لا تعطى فيه أهميةٌ للون، يبدو أن هاري ريد يتخلف خطوات كثيرة خلفهم".
ويصور هذا التصريح الأخير نفاق الجمهوريين المعتاد؛ وهو ما يَشهد به تحذير "روش ليمباو" Rush Limbaugh ، اليميني الذي يُنظر إليه على أنه زعيم الجمهوريين، في برنامجه الشهير للمحادثات المباشرة، من التبرع لضحايا الزلزال الذي ضرب عاصمة هاييتي الأسبوع الماضي مدعيا أن الرئيس أوباما سيستغل هذه التبرعات لأغراضه السياسية خاصة في إرضاء الأمريكيين من أصول إفريقية.
ولم يخف على الأمريكيين النَّفس العنصري في هذين التصريحين اللذين قوبلا باستنكار شديد.
ومن الشواهد الأخرى خطورة الكلام في الولايات المتحدة عن إسرائيل. إذ يفسَّر أي نقد لها بأنه "معاداة للسامية" وهي جرم يعاقب عليه القانون. ومن الطبيعي أن تجريم "معاداة السامية" لم يكن ممكنا لو لم يكافح اليهود طوال العقود الماضية من أجل تصنيفها جرما من جرائم الكراهية.
ولم يستطع المسلمون والعرب في الولايات المتحدة إنجاز خطوة قانونية مماثلة بسبب عدم سعيهم لاستخدام القانون بالطريقة نفسها. ومع هذا ينبغي ألا ننسى الضجة الكبرى التي نجمت عن وصف الرئيس السابق جورج بوش الحربَ التي كان ينوي شنها على ما أسماه بـ"الإرهاب" بأنها "حرب صليبية". وهو ما اضطره إلى الاعتذار العلني عن استخدامه هذا المصطلح المحمل بتاريخ مؤلم.
ومحصلة القول أن ترك الامتناع عن الإهانات العرقية والمذهبية لضمائر الناس لا يمكن أن يحدَّ من استخدام بعض مؤججي الكراهية لها في أذى الآخرين. لذلك لا بد من سن القوانين التي تجرِّم استخدامها خاصة أنها يمكن أن تتطور في بلداننا العربية والإسلامية لتكون أدوات لإذكاء الفتنة والتأسيس للفرقة بين أبناء الأمة الواحدة، بل الوطن الواحد.