حق السلاحف... وحقوق اللاجئين
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
عرفان نظام الدين
انشغل الإعلام الغربي، والبريطاني على وجه الخصوص، بقصة إنسانية - حيوانية طريفة ومعبرة عن مشاعر الرحمة والتعاطف والتصميم على إحقاق الحق ومساعدة أصحابه على الحصول عليه. القصة الحدث التي تصدرت نشرات الأخبار في التلفزيونات والإذاعات قبل فترة واحتلت مواقع رئيسة في الصفحات الأولى من الصحف تحكي أن مئات السلاحف البحرية ضلت طريقها في المحيط ودخلت من طريق الخطأ في المياه الإقليمية البريطانية وصولاً إلى الشواطئ. تحركت الأساطيل واستنفرت السلطات البحرية لمعالجة هذا الحدث ورصد تحركات السلاحف تمهيداً للإمساك بها وإعادتها الى مسارها الصحيح وفق "خريطة الطريق" الغرائزية التي تحكم عودتها الى ديارها سالمة آمنة غانمة باعتبار "حق العودة" حقاً من حقوقها المشروعة التي لا يجوز الانتقاص منها.
وتدخل العلماء والمختصون بهذا النوع من السلاحف البحرية ليدلوا بدلوهم لتبرير هذا الاهتمام وتكريس هذا الحق الشرعي مؤكدين أن الله عز وجل خلق لهذه السلاحف غريزة تدفعها الى العودة الى مسقط رأسها مهما طال الزمن، وأينما اتجهت بها رياح الغربة والسفر والبعاد والتجول في مياه الله الواسعة والعميقة.
وقبل فترة أيضاً انشغل الرأي العام أيضاً بحوادث مريبة "لم يعد من الجائز السكوت عنها"(!!) وهي أن مئات الحيوانات الأليفة من كلاب وقطط وما شابه بدأت تختفي من "أماكن إقامتها"! ما يستدعي دق ناقوس الخطر وتوجيه نداءات عاجلة لكل من يمكنه المساعدة في إعادة هذه المخلوقات الى ديارها حتى لا تتعرض لخطر أو تصاب بعقد نفسية لأنها أرغمت على الابتعاد عن موطنها الأصلي وانتزعت منه بالقوة، لتتشرد في أماكن غريبة عنها وتصبح من حيوانات الشتات.. فهذا حرام ولا يجوزأبداً (!!) بل إن من واجب كل مواطن وكل إنسان أن يعمل على إعادة الحق الى نصابه ودعم هذه القضية المحورية التي تهدد السلام العالمي والأمن العام وتحرم القطط والكلاب من أبسط مبادئ حقوق الحيوان!!
قد تبدو هذه المقدمة مضحكة، وشر البلية ما يضحك، لكننا كبشر نملك مشاعرنا الإنسانية ونتعاطف مع كل المخلوقات وندعم حقها بالعودة الى ديارها ولا نمانع هذه الحملات المحقة، بل إن الإسلام دين الرحمة والتسامح فيه الكثير من المبادئ والنفحات الإنسانية التي تسبق كل دعوات الرحمة للإنسان والحيوان على حد سواء، وتضع اللبنات الأساسية لما يروج له هذه الأيام من وجوب إقرار شرعة لحقوق الحيوان.
المضحك المبكي يتمثل في ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين لدى الرأي العام العالمي، والغربي بالذات، ولدى القيادات السياسية والمنظمات الدولية والإنسانية، تماماً كما نشهد في بعض الأحيان كيف تقوم الدنيا ولا تقعد عندما يتعرض إنسان غربي لخطر أو لحادث خطف أو اعتداء، أو عندما يعتدى على إسرائيلي ويغض الطرف عن مآسي العرب، والشعب الفلسطيني بالذات على يد المحتل الصهيوني تطبيقاً لمقولة: "قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر".
نعم ندعم ونؤيد عودة السلاحف البحرية الى موطنها الأصلي، ونشجب ونندد بخطف الحيوانات الأليفة من ديارها ونطالب بإعادتها فوراً، ونساند الحملة لإقرار شرعة حقوق الحيوان، ولكن كل ما نطالب به بكل تواضع هو: الرحمة ثم الرحمة، والعدالة والمساواة وتطبيق قرارات الشرعية الدولية وشرعة حقوق الإنسان لرفع الظلم عن شعب مشرد مضطهد ومظلوم ومقتلع من أرضه ووطنه ومحروم من أبسط الحقوق الإنسانية وفي مقدمها حقه المشروع الذي لا تنازل عنه وهو حق العودة الى دياره ووطنه ومدينته وقريته وأهله وبيئته ومسقط رأسه.
فهل يعقل أن نهتم بالسلاحف البحرية والقطط والكلاب ونتجاهل قضية إنسانية بحتة بامتياز ونحرم الشعب الفلسطيني من حقه الطبيعي والشرعي في العودة على رغم أنف الشرعية الدولية والأمم المتحدة وبليون ونصف بليون إنسان عربي ومسلم ومئات الملايين من أبناء الشعوب الحرة وكل إنسان في قلبه ذرة من الرحمة والمشاعر الإنسانية وفي ضميره نخوة وشرف وأخلاق؟ وهل يجوز أن نتشدق بالعلم والتقدم والحريات والعولمة وتحول العالم الى قرية صغيرة وتبقى في هذه "القرية" العالمية مخيمات البؤس والعار والظلم المتمادي والقهر المتعاظم والمستمر منذ أكثر من 62 عاماً يوم احتل المغتصب الصهيوني فلسطين العربية الآمنة المسالمة وطرد أهلها الأصليين وشعبها الأصيل ليشردوا ويوزعوا على مخيمات البؤس؟
أي إنسانية يتحدثون عنها؟ وأي مشاعر فياضة؟ وأي ازدواجية معايير؟ فمأساة اللاجئين الفلسطينيين لن تنهي القضية الفلسطينية ولن تمسح هوية شعب مؤمن ومناضل ومصمم على العودة مهما طال الزمن واشتدت الضغوط وتكالبت القوى عليه لفرض واقع مرفوض لتوطين الفلسطينيين في البلاد التي يقيمون فيها أو توزيعهم على دول العالم ليكونوا كالأيتام على موائد اللئام.
ومهما حاولت إسرائيل والقوى الصهيونية والأخرى المتصهينة فإن حق العودة لن يموت ولن ينسى، ومهما أعلن من مبادرات ومشاريع ومخططات فإن نجاحها مرتبط بإقرار بند رئيس وأساسي ومصيري وهو العودة، ونقطة على السطر وبلا لف ولا دوران.
وكل ما يطالب به هؤلاء هو تطبيق قرارات الشرعية الدولية من القرار رقم 194 الذي يكرس هذا الحق الى القرارين رقم 242 و338 اللذين يقران بصراحة بمعالجة هذه القضية الإنسانية الحساسة مع تفصيل يتجاوز القرار 194 ويقضي بمعالجة القضية بتخيير اللاجئين الفلسطينيين بين حقهم في العودة والحصول على تعويضات محقة. ولو استعرضنا تاريخ الصراع العربي - الصهيوني لوجدنا أن كلمة السر عند العدو هي رفض البحث في هذا الموضوع بدءاً من ترديد مزاعم عن"فلسطين أرض بلا شعب واليهود شعب بلا أرض" وهي معادلة ظالمة مثلها مثل الدعوة الى توطين الفلسطينيين في الدول العربية بزعم أنها غنية وواسعة وتستوعب هؤلاء اللاجئين.
وتطور الأمر مع تزايد الضغوط لتلجأ إسرائيل الى لعبة الوقت والمماطلة والمناورة والاحتيال من خلال المطالبة بتأجيل البحث في المسائل الرئيسة مثل القدس والحدود والمياه والدولة الفلسطينية الى مفاوضات الحل النهائي، اعتقاداً منها أن الزمن سيدفن هذه القضايا، والمتغيرات الدولية ستساعد على إيجاد حلول لها وفق "خريطة الطريق" الصهيونية وليس "خريطة طريق" السلام، وهذا ما عبر عنه معظم السياسيين الإسرائيليين عندما اعترفوا بجدوى المماطلة وكسب الوقت لمواجهة الضغوط ومبادرات السلام بتعقيد سبل الحوار. والمؤسف أن هذه الحيل قد "بلعها" العرب مرات ومرات وسقط في فخها الفلسطينيون، لا سيما في اتفاقات اوسلو التي خلت من بند رئيس لا غنى منه وهو حق العودة مع البنود الرئيسة الأخرى فضاعوا في متاهات الدهاليز الصهيونية منذ 15 عاماً وما زالوا يبحثون عبثاً عن مبادرة مرتقبة بعد فشل اللجنة الرباعية الدولية و"خريطة الطريق" و"ميتشيل" و"تينيت" و"طابا" و"كمب ديفيد" وغيرها.
ولمواجهة هذه المؤامرة الصهيونية لا بد من وقفة عربية ثابتة وحازمة وحاسمة، ولوقف إسرائيل عند حدها ومنعها من مواصلة الاستيطان الاستعماري وتهويد القدس والأراضي العربية وقضم المزيد منها ولا سيما في الضفة الغربية لا بد من تحرك سريع على مختلف الأصعدة عنوانه: لا سلام إلا بإقرار حق العودة، ولا أمن وأمان إلا بإنهاء مأساة أكثر من 4 ملايين لاجئ فلسطيني يعيشون حياة البؤس اللامتناهي.
وهذا لا ينتقص من أمر الحقوق الأخرى ولا سيما تلك المتعلقة بالقدس الشريف والدولة المستقلة، ولكن مأساة فلسطينيي الشتات لها الأولوية لأنها تضع المنطقة، والدول القائمة فيها منذ أكثر من 62 عاماً على حافة بركان وتمتد حقول ألغامها على امتداد العالم العربي والعالم كله إذا لم تتم المسارعة الى إيجاد حل عادل وشامل لهذه القضية كخطوة أولى نحو سلام لا يستقيم دونه.
ولا حاجة للبحث والتنقيب فأمامنا قرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية التي أقرتها قمة بيروت بعد أن قدمها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، ومرجعية مؤتمر مدريد للسلام (1991) التي تستند الى مبدأ "الأرض مقابل السلام" ولم تغفل القرارات المحقة التي تنص على حق العودة أو التعويض. ولا بد أن يأتي يوم يقتنع فيه العالم، وتدرك إسرائيل حقيقة لا شك فيها، أنه ليس هناك أي بديل آخر، لأن أي حل لا ينص صراحة على العدالة والحقوق المشروعة لن يحقق السلام.
ونتمنى أن يتم ذلك قبل فوات الأوان لأن ما حدث في مخيم نهر البارد ما هو إلا عينة من الآتي، والآتي أعظم، وما يشهده العالم من عنف وإرهاب ما هو إلا بدايات لنهايات مأسوية.. فهناك نقمة وأجواء مهيأة للتفجير، وهناك الأجيال المتعاقبة التي ذاقت مرارة الظلم والحرمان والجوع والبرد والمرض والخوف والقتل والمذابح والتشريد، وهناك قوى ظلامية تستغل معاناة هؤلاء لتنفيذ أغراضها ومخططاتها وجرهم الى حروب ومذابح جديدة قد تفلح في تحقيق ما فشلت فيه قوى الصهيونية الغاشمة.
ومن لا يصدق فليذهب في "جولة سياحية" على مخيمات البؤس في لبنان والأردن وسورية وقطاع غزة وليستمع الى أنين الأطفال واليتامى والثكالى وإلى صرخات أكثر الناس عذاباً في الأرض، وليفهم بعدها أن السلام القائم على الظلم لا قيمة له فما بني على باطل هو باطل، وأحاديث التوطين لن تحل المشكلة بل تزيدها تعقيداً وتشعل نيران حروب وفتن في ديار الشتات، والمنطقة والعالم بغنى عن بؤر توتر جديدة وعن حروب تولد أخرى. فأكثر ما يدمي قلب الإنسان هو شعوره بالظلم والعدوان والإهمال والقهر، وأكثر ما يكسر ظهره إحساسه بالعجز وعدم قدرته على إيجاد لقمة عيش لأطفاله أو الحصول على حبة دواء لمريض يقف على شفا الموت. وأكثر ما يثير النقمة وينمي الحقد ويدفع الى اليأس واللجوء الى العنف هو فقدان الأمل، فما أضيق العيش لولا فسحة الأمل، وما أصعب العيش عندما تجد نفسك أمام حائط مسدود: لا أمل ولا حل ولا حاضر ولا مستقبل. كلنا نحلم بالغد والفرج وبناء مستقبل أولادنا وأحفادنا باستثناء إخواننا الأحباء في مخيمات البؤس. حتى الحلم منعوه عنهم وسلبوه منهم مع أرضهم ووطنهم وحقوقهم المشروعة.
وبعد كل هذا يسأل البعض: لماذا يكرهوننا؟ وترسم السياسات لمكافحة الإرهاب وتزداد المخاوف من انتشار التطرف وازدياد موجات العنف، ويتلهى العالم بقصص السلاحف البحرية والقطط والكلاب فهي مسلية.. ولكن الى حين!!