«لبننة» العراق... و«عرقنة» لبنان
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
وليد نويهض
توافق "التحالف الوطني" على ترشيح نوري المالكي إلى منصب رئيس الوزراء بعد مفاوضات ومداولات استمرت أكثر من سبعة أشهر جاء نتاج تقاطعات دولية - إقليمية بشأن مصير بلاد الرافدين في مرحلة التموضع العسكري الأميركي وبداية رحيل الاحتلال عن العراق. فالتوافق على المالكي لم يتأسس على معادلة داخلية بقدر ما هو محصلة التقاطع الأميركي - الإيراني المدعوم سورياً.
الاختيار ليس عراقياً صرفاً وإنما خطوة تؤشر إلى متغيرات محتملة في اللعبة الدولية - الإقليمية يمكن البناء على تفاعلاتها رؤية تستطيع قراءة المشهد العام في دائرة "الشرق الأوسط" الكبير أو الصغير. فالخطوة إذا نجحت ليست تفصيلية وعابرة بقدر ما هي تعكس توازنات سيكون لها تأثيرها في منظومة العلاقات الإقليمية ومواقع الأطراف في إدارة قواعد اللعبة انطلاقاً من هيئة الحكومة العراقية التي يرجح أن تتشكل في الأسابيع المقبلة.
العراق المهشم والمقطع الأوصال سيتحول إلى نموذج للتصدير ويمكن أن تتشكل من إطاراته الأهلية "وصفات طبية" يؤخذ بها عند الحاجة لمعالجة حالات مشابهة في دول الجوار القريبة والبعيدة. وحال العراق الآن الذي انتقل في أقل من 8 سنوات على الاحتلال من إحدى الدول العربية الإقليمية التي يحسب لها ألف حساب إلى "جمهورية موز" على غرار الدول اللاتينية في سبعينات القرن الماضي؛ باتت تشكل ذلك النموذج القابل للتصدير من خلال قنوات إقليمية تقوم بتصريف خريطة الشرق الأوسط "الجديد" في هياكل أهلية لا تنسجم كثيراً مع حال المنطقة العربية قبل سقوط بغداد في ربيع 2003.
اختيار المالكي بتوافق أميركي - إيراني مدعوم سورياً يؤكد من جانب هشاشة الوضع السياسي في العراق ولكنه أيضاً يؤشر إلى متغير محتمل في قواعد اللعبة الدولية باعتبار أن بلاد الرافدين تحولت في سنوات الاحتلال إلى ساحة اختبار لموازين القوى ودورها في إمكان المشاركة في صوغ الخريطة الأهلية لدول الشرق الأوسط "الجديد". وبهذا المعنى فإن التقاطع الذي جرى اعتماده في العراق ليس بسيطاً ويمكن أن يكون خطوة أولى وليست الأخيرة في المجال الحيوي لدول المنطقة.
الخطوة الثانية يرجح أن تكون في لبنان بسبب وجود ذلك الخيط السري (السحري) الذي يربط بيروت ببغداد ويتمثل في انعكاس الجاذبية العراقية على التوازنات الأهلية في ذلك الكيان. فهذا البلد الصغير استخدمت إدارة تيار "المحافظين الجدد" نموذجه الطائفي - المذهبي أساساً للتعامل الأميركي مع العراق بعد الاحتلال. ونجح نموذج "اللبننة" في تفكيك بلاد الرافدين وتشرذم الطوائف والمذاهب على مساحات جغرافية تتنافس على مقاسمة الغنيمة.
"اللبننة" كان النموذج الذي اعتمده الاحتلال لتشطير بلاد الرافدين وتوزيعها على مراكز قوى تتحرك على عصبيات ضيقة وهويات صغيرة تمنع قيام دولة قوية بديلة وتفتح الأبواب للتدخلات الدائمة في ترتيب أوضاعه الداخلية وتحديد الاختيارات المحلية من نواب ووزراء ورؤساء. وهذا النموذج الذي نجح في تحطيم وحدة العراق وإعادة تأسيسها على وحدات فيدرالية (دويلات طوائف) أعطى دول الجوار فرصة للدخول والتدخل من خلال جزئيات الخريطة الأهلية المذهبية التي ستتشكل هيئتها بناء على معادلة النفوذ والدور في صنع صورة "العراق" المقبلة.
المناقصة الأميركية كما يبدو استقرت بعد لقاءات "فنية" واجتماعات "تقنية" استمرت على مدار أربع سنوات تحت ضجيج القصف الإعلامي الايديولوجي على إيران بوصفها اللاعب الشريك في ترتيب هيئة العراق "الجديد".
لبننة بلاد الرافدين أنهت إلى حد كبير وظيفتها السياسية وبات حال العراق يشبه "جمهوريات الموز" اللاتينية. فالدولة "الجديدة" ستكون موزعة وفق نظام محاصصة يعتمد نسبة ثلاثية موزعة على ثلاثة أطراف (شيعي، سني، كردي) تأخذ في الاعتبار اختلاف الأحجام والأدوار والوظائف ومدى تأثير القوى الإقليمية والجوارية في إدارتها وتحريكها كما يحصل مراراً وتكراراً في المشهد اللبناني.
يبقى السؤال عن الخطوة الثانية إذا نجحت الأولى في العراق. ماذا سيحصل في بلاد الأرز بعد عودة الرئيس السوري بشار الأسد من طهران اليوم وقبل زيارة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد إلى بيروت في 13 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري؟ الجواب يمكن قراءة بعض تفصيلاته من ملاحقة التفاهمات المحتملة بين إيران وسورية في شأن الملف العراقي. فالنموذج اللبناني (اللبننة) الذي تم تصديره إلى العراق بعد سقوطه في العام 2003 سيعاد إنتاجه وإرساله إلى لبنان بصيغة معدلة. والعرقنة هي النموذج "الجديد" المحتمل اعتماده في بلاد الأرز.
"عرقنة" لبنان بعد "لبننة" العراق هي الخطوة الثانية التي يحتمل أن يبدأ التقاطع الأميركي - السوري المدعوم إيرانياً في اختبارها بعد عودة الرئيس أحمد نجاد من زيارته الساخنة إلى بلاد الأرز. والعرقنة تعني احتمال دفع العلاقات الأهلية إلى درجة متقدمة من التأزم تؤدي إلى انهيار الاستقرار الهش وإعادة تدويره باتجاه ترتيب صيغة المحاصصة ونقلها من المناصفة المسيحية - المسلمة إلى مثالثة (شيعي، سني، مسيحي) كما هو حال النموذج الثلاثي الأبعاد المتبع الآن في بلاد الرافدين.
هذا الاحتمال ليس بعيداً عن الترجيح ولا يستبعد أن يكون تم التوافق عليه ضمن صفقة إقليمية كبرى وضعت اللمسات الأخيرة عليها خلال اللقاءات التي جرت في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. فالكواليس شهدت اتصالات واجتماعات تناولت مختلف التفصيلات في الملفات العراقية واللبنانية والفلسطينية على مستويات عالية شاركت فيها مراكز قوى تلعب دورها الميداني في التأثير على صنع القرار الأميركي.
الخطوة الأولى بدأت في العراق وهي تشكل في منتوجها الدولي - الإقليمي نقطة تقاطع أميركية - إيرانية مدعومة سورياً. والخطوة الثانية يرجح أن تظهر معالمها بعد انتهاء أحمدي نجاد من زيارته إلى لبنان بعد أسبوعين من الآن. والخطوة المحتملة لا يمكن لها أن تأخذ مداها الجغرافي - السياسي إلا بعد حصول التوافق الدولي الإقليمي وهو في إطاره اللبناني يتمثل في التقاطع الأميركي - السوري المدعوم إيرانياً. فالمقابل الإيراني للتنازل السوري المشروط في العراق هو التنازل الإيراني المشروط لدور سورية في لبنان. وبهذا الإطار تكون الدائرة قد أنهت وظيفتها حين بدأت بسياسة "لبننة" العراق بإشراف الاحتلال لتنتهي بسياسة "عرقنة" لبنان برعاية أميركية