الدراما وتشويه السمعة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
عبدالله بن بجاد العتيبي
لم تزل الدراما العربية هزيلة، والخليجية والسعودية منها تعاني ذات الداء، ولم ترتق بعد لأن تصبح دراما منافسة على المستوى الإقليمي مقارنة بتركيا وإيران فضلاً عن المستوى الدولي لا في المسلسلات، ولا في الأفلام، ولا في المسرح، ولا في غيرها من أنواع الإنتاج الدرامي.
مشكلة الدراما لدينا أنها لا تُحاكم وفق شروط الدراما التي تحدّد النجاح والفشل، مشكلتها أن محاكمتها تأتي من معايير أخرى لا علاقة لها بالدراما، فمرةً تُحاكم دينياً وأخرى تُحاكم سياسياً، وثالثةً تُحاكم اجتماعياً، وكل هذه المحاكم الثلاث لا تريد أن تعترف بمكانة الدراما وحقها في فرض شروطها التي ينبغي أن تُحاكم إليها، فالكل يعتقد أن أحكامه على الدراما لها الأحقية في التقدّم والتأثير.
النقد داخل شروط الدراما يهدف إلى تعرية خطأ هنا، وتقصير هناك، بغض النظر عن حجم هذا الخطأ أو ذلك التقصير، المهم هو إظهاره وإبرازه وإيصاله للمشاهد ضمن الإطار الدرامي الذي يختاره مبدعوه، المسألة شديدة الجلاء والوضوح داخل شروط الدراما، ولكنّها حين تصطدم بشروط ومعايير أخرى يصبح الأمر شائكاً، ويتفنن المعارضون في تحميل هذا النقد الدرامي كل المعاني السيئة والمشينة، وينتقلون بطرفة عينٍ من الدراما المرئية إلى النوايا الخفية!
ناقدو النقد الدرامي ينطلقون من منطلقاتٍ شتّى، ولكلٍ غايةٌ ولكلٍ هدفٌ، البعض يريد الهجوم على الدراما كلها بدوافع دينية لا ترى في الدراما إلا حراماً محضاً وخطيئةً لا تغتفر، والبعض يبغي من محاربتها الظهور والسمعة، والبعض الآخر لا ندري ما يريد وما يبغي، ولكنّه الهجوم والمحاربة لمجرد الهجوم والمحاربة.
دائماً في المثال ما يوضح الفكرة وفي النموذج ما يجلّيها، فالمسلسل ذائع الصيت "طاش ما طاش" ومعه عدد من المسلسلات الدرامية جرى اتهامها وعلى نطاقٍ غير ضيّقٍ بأنهم يسيئون للفرد السعودي أو الخليجي ويظهرونه كساذجٍ وغبيٍ، ويخفون صورته الحقيقية كأذكى الأذكياء وأنبه النبهاء!
ما ينساه هكذا نقد، هو أن مجتمعاً ضخماً كالمجتمع السعودي والخليجي يقارب مجموع سكانه الستّين مليون نسمة فيه كل أصناف البشر من مفكر متميّز إلى سياسي بارع إلى مدير ناجح، وفيه أضدادهم فاشلون وأغبياء وحمقى، وأصناف لا يطيق تنوّعها واختلافها الحصر، ولا يستطيع أحد ضبط أنواعها وأشكالها، والدراما تبحث دائماً عن المختلف والمغاير لا عن العادي والروتيني، وبمعنى آخر عن المثير للاهتمام إيجابياً كان أم سلبياً، لأن هذا ضمن شروط الدراما، هو ما يجذب المشاهد ويضمن نجاح العمل.
إن نوعية النقد السابق ذكرها للدراما لدينا ليس له في معايير الدراما وخاصة الكوميدية منها أي قيمة، فهو ينطلق من معايير لا تمتّ للدراما بصلة، يسيطر على بعضه النرجسية، ويطغى على بعضه ارتفاع "الإيجو" الفردي، وهاتان عمايتان لا علاقة للدراما بهما، ولا وجود لهما في عالمها.
المقارنة مجدية هنا، لمعرفة الناجح والفاشل ضمن شروط الدراما، مع الأخذ بالاعتبار أن نجاح الدراما وفشلها شديد التأثير على كافة المستويات، ولأضرب المثل بنموذجين مختلفين عن حال الدراما عربياً وخليجياً وسعودياً، وهما نموذجان لهما مكانة كبيرة في عالم الدراما: هوليوود وبوليوود، أو أميركا والهند، الاثنتان رغم إنتاجهما الغزير والذي يشمل كافة أشكال الحياة ويتضمن جميع أنواع الأفكار ويشمل كل أطياف الخيال، من الحياة العادية إلى الفانتازيا إلى التاريخ، إلى كثيرٍ من الأفكار المبدعة الخارجة عن السياق الواقعي، إلا أننا نجدهما في الأعمال التي تحكي الواقع يبالغون -كما تقتضي الدراما- حيناً، ويزيدون الواقع تعقيداً أكثر مما هو عليه لإيصال فكرتهم والوصول للمشاهدين.
في هوليوود نجد مئات الأفلام التي تمتلئ بالعنف والقتل وشتى الجرائم البشعة والمثيرة للاشمئزاز، فهل هذا يحكي واقع أميركا فعلاً؟ بالتأكيد لا، ولكن لغة الدراما ومنطقها مختلف تماماً، وفي بوليوود نجد أنواع المبالغات والفانتازيا التي تجعل بعض الشعوب تسخر بها، ومنها دولنا العربية، فحين نسمع قصة أو حدثاً مبالغاً فيه نصفه بـ"الفيلم الهندي"، وننسى أن معنى هذا هو أننا نشاهد الفيلم الهندي ونعرفه جيداً، وهذا بحدّ ذاته نجاح للدراما الهندية، ولكن هذا سر طوي عن ناقدي الدراما لدينا.
نحن بحاجة في بلداننا العربية لمزيد وعيٍ بقيمة الدراما كفنٍ راقٍ ومستقلٍ وذي معايير خاصةٍ، وبحاجة أكثر إلى الوعي بأننا حين نريد صناعة دراما مؤثرة وفاعلة في العالم فعلينا وفقاً لشروطها أن ندعمها بقدر ما نستطيع، وأن نمنحها من الحريّة والمساحة ما نطيق، حتى تصل أعمالنا الدرامية للدول الإقليمية أولاً وللعالم بأسره لاحقاً، فبدلاً من أن ندبلج مسلسلات إقليمية، سيصبح للدراما العربية مجال أن تدبلج للغات أخرى، ونصبح مرسلين مؤثرين لا مجرد متلقين على مستوى الدراما، وهذا أمر يحتاج منّا لفهم واقع الدراما وشروطها وتهيئة كل الظروف التي تساعدها على الإبداع والتطوّر.
إن تكلفة صناعة الدراما في العالم تقدر بالمليارات، وجمهورها الراغب والمتطّلب لها يزداد كل يومٍ، ويرتفع كل ليلةٍ، وبالتالي فمداخيلها تقدر بالمليارات كذلك، والأهمّ تأثيرها الذي يسلب العقول ويمتلك القلوب، ويتحكم في الموقف من كثيرٍ من القرارات السياسية والأحداث التاريخية والحركات الاجتماعية.
عوداً على بدءٍ فإن مشكلة الدراما لدينا هي أن البعض يعتبرها تسليةً فحسب، وتمضيةً للوقت لا أكثر، ويغفل عن قوّة الدراما في التأثير على البشر والمجتمعات والدول، وأنّها حين تخلص لمعاييرها وشروطها وفنّها وإبداعها قادرة على إيصال الكثير من الرسائل النافعة والتأثير الجميل.
مشاكل الدراما لدينا كثيرة ومتعددة، فالبعض يرى أن مجرد تناول موضوع ما -يستحق درامياً التناول- هو اختراق للخطوط الحمراء، والبعض يرى أن النقد الذي يمرّ عبر الدراما لا يعدو أن يكون تشويهاً متعمداً، والبعض يرى أن الدراما بحدّ ذاتها هي لهو ولعب وليس لها أي دورٍ ولا تأثير.
وبين هذه الاتهامات الثلاث تظل الدراما لدينا -مهما عانى القائمون عليها- مجرد تسلية وتمضيةٍ للوقت لا أقل ولا أكثر، وإن بقي الحال على ما هو عليه اليوم فسنظل في قعر القياس العالمي للدراما، متلقين ومتأثرين، لا فاعلين ومؤثرين.
ليس من مقصد هذا الحديث على الإطلاق التغطية على فشل القائمين على الدراما لدينا، الفشل الذي لا يحتاج لكثير تدليل، فهو مشاهدٌ وملموسٌ، ولكن السؤال المهم هو لماذا؟ لماذا هذا الفشل الدرامي لدينا؟
إن الجواب على هذا السؤال يتضمن عدة أسبابٍ منها الكبير ومنها الصغير، فمثلاً نحن لم نهيئ بيئةً صالحةً لصناعة الدراما، فلا بنية تحتية لها، ولا استثمار حقيقي فيها، ولا اعتراف بأهميتها ودورها، مع ملاحظة مهمة هي أن أغلبنا يقضي الساعات في مشاهدة دراما غيرنا!
وبقية الجواب تكمن في القائمين على الدراما نفسها، فنحن بحاجة لصناعة كتاب دراميين متميّزين، ولكننا لا نريد إعطاءهم حقهم لأجل التفرغ والجهد الذي يبذلون، فخسرنا كتّاب الدراما لشحنا، ونحن ليست لدينا معاهد وكليات تخرّج ممثلين مبدعين سوى من اجتهدوا بأنفسهم، فخسرنا اكتشاف الممثلين المميزين، ونحن نستورد المخرجين لكل عمل لا نسعى لاستثماره في المخرجين المحليين الذين هم أدرى ببيئتنا وتفاصيلنا فخسرنا المخرجين، ونحن نبحث دائماً عن الأسرع والأرخص لأننا لا نملك نفساً طويلاً في صناعة الدراما، فخسرنا طبخ الدراما على نارٍ هادئة.