قمة سرت وأزمة الهوية العربية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
وليد نويهض
تنعقد قمة سرت العربية اليوم في الجماهيرية الليبية وعلى رأس جدول أعمالها ملفات متنوعة تعكس مفارقات بين دعوات لتحسين منظومة العلاقات في الجامعة وتطوير التعاون مع دول الجوار (إيران، تركيا، أثيوبيا، إريتريا، وتشاد) وبين مخاوف تهدد السودان والعراق واليمن بالتقسيم وفلسطين بالتآكل الاستيطاني وترحيل السكان.
التعارض بين التوحيد والتقسيم يشكل الآن جوهر أزمة الهوية في العالم العربي من المحيط إلى الخليج. وسؤال الهوية الذي بدأ النقاش بشأنه في أربعينات القرن الماضي حين كانت المنطقة العربية تمر في مرحلة انتقالية بين نهاية ارتحال الاستعمار الأوروبي وبداية الاستقلال ونمو حركات التحرر الوطني يعاد الآن طرحه على طاولة النقاش في إطار مرحلة انتقالية جديدة تشهد بداية رحيل الاحتلال الأميركي وما أنتجه من تداعيات تهدد استقرار منظومة العلاقات العربية.
أكثر من 60 عاماً مضى على تأسيس جامعة الدول التي جاءت رداً على أزمة هوية نجمت عن انهيار السلطنة العثمانية في الحرب العالمية الأولى ثم إلغاء الخلافة الإسلامية بقرار تركي في العام 1924 ونشوء حالات من الفراغ بسبب الضياع السياسي وعدم التوافق على بديل تاريخي يحدد الجامع المشترك الذي يتكفل بضمان وحدة المنطقة العربية.
سؤال الهوية الذي طرح بقوة في أربعينات وخمسينات القرن الماضي للرد على أزمة اجتاحت المنطقة بعد فشل المشروع العربي الذي انطلق من الحجاز (الثورة العربية الكبرى) وبدأ يتساقط تدريجياً إثر انهيار حكومة فيصل العربية في دمشق في العام 1920 أخذ الآن ينمو مجدداً في عالم يتقدم بسرعة نحو نمط من التكتلات الجغرافية تعتمد أفكار السوق (الاقتصاد) وتبتعد عن اللغة والدين والتاريخ وغيرها من جوامع مشتركة.
العالم العربي يمر الآن في محطة رابعة من العلاقات والمتغيرات. الأولى انتهت في الحرب العالمية الأولى حين خرجت جيوش السلطنة من بلاد الشام والعراق ودخلت مكانها جيوش الاستعمار الفرنسي - البريطاني لتبسط بذلك منظومة السيطرة الأوروبية نفوذها من المحيط إلى الخليج.
الثانية بدأت في نهاية الحرب العالمية الثانية حين تلقت منظومة الاستعمار الأوروبي ضربات مؤلمة أدت إلى إضعاف قبضتها الحديد فأخذت قوتها تتلاشى عسكرياً ما أعطى فرصة لحركات التحرر والاستقلال بالنهوض السياسي وإزاحة مظلات الوصاية والانتداب على دفعات وموجات شهدت صعوداً في الستينات والسبعينات.
الثالثة أعقبت تأسيس جامعة الدول العربية التي جاءت في لحظة زمنية تعوض من جهة خسارة الهوية الإسلامية الجامعة وتشد من جهة حلقات السلسلة العربية التي تعرضت لاهتزازات بسبب ظهور دعوات كيانية وانفصالية ترفض فكرة العروبة أو الاندماج في اتحاد عربي.
المحطة الرابعة أخذت تتشكل في تسعينات القرن الماضي حين فشلت منظومة الدفاع العربية في معالجة "أزمة الكويت" خارج سياق المظلة الدولية وما أنتجته من تداعيات بدأت تتدحرج بسبب التدخل العسكري الأميركي على أساس استراتيجية تقويض ما هو قائم وإعادة تشكيله من جديد على جزئيات أنقاض السابق.
خطورة المحطة الرابعة تكمن في مجموعة احتمالات تتجاوز سؤال الهوية الذي شكل الهاجس السياسي للنخبة العربية على امتداد النصف الأول من القرن الماضي. آنذاك اختلفت النخبة على اسم (عنوان) المنطقة بين قائل بتجديد الهوية الإسلامية (خلافة بديلة) وبين قائل بالاستقلال العربي (وحدة عربية لا إسلامية) وبين قائل بوحدة الكيانات كما كان حالها عشية خروج الاستعمار الأوروبي (فينيقية، فرعونية، كنعانية، سومرية، آشورية، كلدانية، قبطية، نيلية، كردية، أماغيزية) من دون تعديل وبين قائل بالاحتفاظ بالدول كما هو شكلها السياسي الذي رسم الاستعمار خريطته خلال فترة الوصاية والانتداب.
بين خضم هذه الموجات التي تعكس أزمة الهوية البديلة تم التوافق على تسوية تقوم على معادلة الجمع بين الاحتفاظ بشكل الدولة بعد الاستقلال والانضمام إلى هيكل (جامعة) يضمن عدم التفكك والانفصال ولكنه لا يطمح نحو الدمج والوحدة العربية الاتحادية. التسوية المؤقتة تلك أنتجت صيغة تاريخية أخرجت من جانب صفة الإسلامية ومن جانب آخر تجنبت الانزلاق نحو وحدات كيانية أصغر (تقسيم التقسيم).
هذه التسوية التاريخية التي استبدلت الإسلامية بالعربية تعرضت خلال مسارها السياسي في العقود الماضية إلى امتحانات صعبة بدأت بنكبة فلسطين في العام 1948 وفشل كل المحاولات الاتحادية الثنائية أو الثلاثية أو الرباعية إلى أن جاء الاستحقاق الكبير في "أزمة الكويت" في العام 1990. منذ تلك اللحظة دخلت المنطقة من جديد في سؤال الهوية حين أخذت الدول الكبرى بقيادة الولايات المتحدة تطلق تسميات (ماركات) تجارية - سوقية على المنطقة العربية بقصد تفريق منظومة العلاقات وإعادة تشكيلها تحت عناوين ويافطات تستخدم كلمات بديلة وتشطب الهوية العربية (العرب). مرة كانت تستخدم "الشرق الأوسط" ومرة "الشرق الأدنى" وأخيراً توصلت إلى صوغ معادلة شعوب "مينا" وهي كلمة مركبة من "الشرق الأوسط وشمال إفريقيا" وتستهدف في النهاية منع استعمال مصطلحات تؤشر أو تذكر بالعربي أو العرب.
إسقاط الهوية العربية من المداولات التجارية والبروتوكولات الدبلوماسية لم تكن مسألة بريئة وعفوية، وهو أيضاً جاء رداً على فراغ بسبب فشل منظومة العلاقات العربية من التطور والانتقال من صيغة الجامعة (التعايش الأفقي) إلى صيغة الاتحاد (التراتب العمودي). وأدى منع تداول المظلة العربية في النصوص والصكوك والاتفاقات المالية والتجارية إلى نشوء ماركات وتسميات صغيرة تعكس نمو هويات ضيقة بديلة عن تلك المفاهيم التي توافقت عليها النخبة في مرحلة الاستقلال والتحرر الوطني.
كلمة "مينا" المركبة التي بدأت تجارية - سوقية أخذت تتطور نحو مفهوم دبلوماسي - بروتوكولي بعد احتلال العراق وتقويض هويته العربية... والآن تبدو شعوب "الشرق الأوسط وشمال إفريقيا" متجهة نحو انقسامات ما يعطي ذريعة دولية لتحويل كلمة "مينا" إلى هوية جديدة تطلق على المنطقة العربية.
مسألة استبعاد الهوية العربية من التداول ليست بسيطة وهي تستحق القراءة والمراجعة قبل فوات الأوان وبدء التفكك والانهيار. وقمة سرت التي تطرح على جدول أعمالها مجموعة ملفات متخالفة في موضوعاتها لابد أن تبحث عن عنوان مشترك يوحد تلك المنوعات في هوية جامعة تمنع على الأقل انزلاق السودان إلى الانفصال والتشرذم والاقتتال.
سؤال الهوية بحاجة فعلاً إلى جواب عربي حتى يمكن اعتماده للتعامل مع التحديات المتفجرة والمتدحرجة من المحيط إلى الخليج. فالهوية في النهاية هي عنوان المنطقة المركزي وإذا ضاع الاسم (التسمية) وسط دعوات الانفصال والتقسيم وصعود العصبيات الضيقة (القبائلية والأقوامية والطوائفية والمناطقية والمذهبية) تذهب الرسائل الدولية والإقليمية بالاتجاه الخطأ وتأخذ الجامعة بالتآكل التدريجي كما كان حال السلطنة العثمانية (الإسلامية) عشية اندلاع الحرب العالمية الأولى في العام 1914.