الجامعة العربية... قبل البلاغ رقم واحد
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
وليد نويهض
عدم نجاح قمة سرت في التوصل إلى حسم المواقف اتجاه القضايا الحساسة من قومية وإدارية وتنظيمية واستراتيجية يؤشر إلى وجود معضلة أخذت تنمو وتتفاقم في العقدين الأخيرين من تاريخ الجامعة العربية. فهذه المؤسسة بلغت طور الشيخوخة وهي تحتاج فعلاً إلى إعادة هيكلة تمنع التفريط بها أو تغييبها عن الشاشة لكونها لاتزال تلعب وظيفة لا يمكن تجاوزها أو الاستغناء عنها في لحظة يتجه العالم نحو تأسيس تكتلات إقليمية تتجاوز حدود الدولة القومية.
الجامعة حاجة عربية وهي تشكل ذلك الوعاء الإطاري الذي يذكر العالم دورياً أو موسميا بوجود دول تنتمي إلى تاريخ وحضارة ولغة وثقافة مشتركة. وهذه العوامل مهمة للتأكيد على ضرورة الاحتفاظ بهذا الإطار التنظيمي حتى لو كانت غير كافية لتبرير وظيفتها في عصر يتسارع في نموه. مشكلة الجامعة ليست في اعتمادها على عناصر تقليدية لقيامها بل تكمن المشكلة في أن هياكل المؤسسة فشلت في تطوير منظوماتها وتحديثها حتى تتناسب مع متطلبات العصر وتحدياته على مستويات أخرى تعزز العوامل التي بررت تأسيسها في أربعينات القرن الماضي.
بين إلغاء الجامعة واستمرارها يفضل أن تبقى مهما كانت ضعيفة وغير قادرة على التصدي للمهمات المعاصرة التي نشأت بحكم المتغيرات الداخلية أو تلك التحولات التي تحيط بها. وبين أن تبقى الجامعة على حالها أو أن تتطور باتجاه احتواء المتطلبات المعاصرة يفضل أن تتقدم وظيفتها من خلال إعادة الهيكلة وتحديد مهمات متواضعة قادرة على تحمل تبعاتها.
وجود الجامعة ضرورة عربية لأن التفريط بها يعني انكفاء الدول الأعضاء إلى حالات كيانية انعزالية يرجح أن تنتج سلوكيات أسوأ من وضعها الحالي. وبقاء الجامعة يشكل ضمانة رمزية وذريعة معنوية تبرر معنى استمرار الهوية العربية حتى لو كانت المنطقة تشهد انتفاضة هويات صغيرة وحركة ارتدادية باتجاه النكوص نحو العصبيات الضيقة.
انهيار الجامعة هو الخيار الأسوأ. واستمرار وجودها هو الخيار الأفضل بشرط أن يعاد تعريفها في حال تعذرت إمكانات تطويرها وإصلاحها وتحديثها. وإعادة تعريف الوظيفة يمكن أن تساعد على تحديد مهمات سهلة وبسيطة ومتواضعة تستطيع الدول الأعضاء تحمل أعباء تداعيات نتائجها. ربما تكون المهمات الكبرى والضخمة والمستعصية التي تصدر عن بياناتها الختامية بعد كل قمة هي من أسباب ضعف الجامعة وتهرب الدول الأعضاء عن تنفيذها. وربما إذا نجحت الجامعة في التوصل إلى لغة بسيطة ومتواضعة تصوغ بها مهمات لا تحتاج إلى عناء وجهد وكلفة ومسئولية تتجاوز الإمكانات والطاقات، تستطيع بعدها أن تتخذ خطوة أفضل من السابق... وهكذا إلى أن تستقيم الأمور وتعتدل القرارات والطموحات.
في الوضع الحالي تبدو بيانات الجامعة الختامية أكبر من الدول الأعضاء وربما تشكل من غير انتباه مجموعة أثقال لا تقوى المؤسسات الوطنية على تنفيذها وتحمل تبعاتها سواء على مستوى الموازنة المالية وحجم الاقتصاد المحلي أو على مستوى المصالح الخاصة التي تنسجها كل دولة بشكل منفرد مع دولة أخرى عربية أو غير عربية.
وحدة اللغة والتاريخ والثقافة والحضارة من العوامل المهمة في تبرير تأسيس جامعة تشكل مظلة هوية مشتركة، إلا أنها في العصر الحاضر لم تعد كافية للنهوض بالمهمات والأثمان والتبعات المرتبطة بالتحديات المباشرة التي تهدد الأمن العام والمصير المشترك.
مشكلة الجامعة قد تكون بطموحاتها المعطوفة إلى بيان التأسيس وتاريخه ما يرفع من نسبة تعثر دولها الأعضاء التي لا تستطيع الوفاء بالتزاماتها لأسباب شتى منها السياسي (طبيعة السلطة) ومنها الاقتصادي (تراجع النمو) ومنها الأمني (الحاجة للحماية) ومنها التربوي والصحي وغيرها من مشكلات تمنع الدولة من النهوض بتلك الأعباء القومية المضافة.
توصيف حال الجامعة مسألة ضرورية لأنه يساعد على تحديد أسباب الضعف والتعرف على مكامن الثغرات التي تمنع الدول الأعضاء من السير على طريق واحد بعد أن بلغت هياكل المؤسسة القومية طور الشيخوخة. فالهياكل الموروثة عن زمن الأربعينات في القرن الماضي أصبحت في آليات أنشطتها متراجعة عن نمو مؤسسات الدول الأعضاء التي تطورت أو تغيرت للرد على الحاجات المحلية (الكيانية).
هذا التفاوت بين تراجع دور ووظائف مؤسسات الجامعة من جانب ونمو هياكل الدولة القطرية من جانب قد يكون من الأسباب الموضوعية لا الذاتية التي تمنع الأعضاء من التكيف مع البيانات الرسمية الختامية والوفاء بالالتزامات القومية المشتركة. وهذا البعد الزمني بين التأسيس في الأربعينات ونمو عناصر بديلة للدولة القطرية (الكيانية) خلال العقود الأخيرة يمكن أن يفسر الأسباب التي تدفع الأعضاء إلى التهرب الخجول من تنفيذ التوصيات التي توقع عليها بعد كل قمة عربية.
هذه الفجوة الزمنية بين مؤسسات الجامعة القومية وهياكل الدول القطرية (الكيانية الوطنية) لاشك تشكل ثغرة تحتاج إلى معالجة قبل أن تتفكك الهيئة العربية الأخيرة وتنهار وتتناثر إلى جزئيات محلية غير مرئية في عصر تقوده التكتلات الاقتصادية الكبرى. فالدول الأعضاء كانت في أربعينات وخمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي بحاجة إلى جامعة (إطار) تعطيها بعض الاستقرار والمناعة والحماية وتساعدها على تجاوز عقبات محلية كانت تعاني منها في لحظة الاستقلال عن الوصاية أو الانتداب الأجنبي. الآن تبدو الأمور قد بدأت بالاختلاف حين أخذت الدولة الوطنية (المحلية) تعزز جذورها الكيانية وتبني هياكل خاصة بها ومستقلة عن حاجات المظلة القومية والهوية العربية.
الحاجة المتبادلة اختلفت كما يبدو بفعل العامل الزمني إذ بسبب تطور وظائف الدولة الوطنية (الكيانية) تأسست هياكل انعزالية تتناسب مع متطلبات السوق المحلية من دون ضرورة للمرور في قنوات إقليمية وحدوية مجاورة أو بعيدة جغرافياً. واختلاف الحاجة يشكل بدوره نقطة مهمة تحتاج إلى قراءة موضوعية حين البدء في دراسة هيكل تطوير وظائف الجامعة وتحديث مؤسساتها وآليات عملها وإعادة تعريف دورها ومهماتها.
الدول تتقارب لأسباب كثيرة بعضها يعود لعوامل تقليدية وبعضها يعود لأسباب الضرورة والحاجة. والدول أيضاً تتباعد للأسباب عينها حتى لو كانت تتكلم اللغة نفسها أو تعتنق الدين ذاته. فالتقارب والتباعد يقومان أساساً على المصلحة وحين تتراجع الحاجة وتتبدل الأحوال وتتغير الضرورات يصبح الماضي من الأثقال التي تزعج بذريعة أنه يعطل حرية الحركة أو حق اتخاذ قرارات خاصة تلبي متطلبات السوق المحلية بغض النظر عن توجهات المظلة العربية القومية.
أزمة الجامعة ليست سياسية فقط (طبيعة السلطة) وإنما أيضاً بنيوية (مؤسساتية) تتصل بتوالي الزمن وتبدل الظروف ونمو حاجات جديدة لم تكن منظورة عند النخبة العربية في أربعينات القرن الماضي. ولهذه الأسباب الموضوعية تصبح مهمة تحديث المؤسسات وبرمجة آلياتها وإعادة هيكلتها خطوة ضرورية للتوصل إلى صوغ لغة معاصرة ومتصالحة مع المتطلبات المضافة وما تستلزمه من رؤية عامة تستوعب الجديد وتستطيع الرد على نقاط الضعف وتحديد الثغرات بقصد إعادة تعريف وظائف الجامعة حتى لا يتجاوزها الزمن وتتهالك وتتساقط (كما هو حال الصومال) من دون حاجة للإعلان وإذاعة البلاغ رقم واحد