جريدة الجرائد

الغرب من منظور غير إيديولوجي

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

مـحـمـد بن علي الـمـحـمـود

هذا موضوع طرقت بعض جوانبه من قبل ، وخاصة الجانب السيكيولوجي منه ، ولم أكن لأعود إليه ؛ لو لم تطفح على السطح مسائل في هذه القضية الشائكة ، مسائل كنا نظن أنها أصبحت في دائرة النسيان أو الهجران . لكن ، يبقى التيار التقليدي المتكلس ، رغم حالة التردي والتراجع التي يمر بها ، قادرا على إحياء الأعشاب السامة في تلك الخرائب المهجورة التي أخنى عليها الدهر كما أخنى على لُبَد . ولهذا ، كان لابد من العودة بين الحين والآخر إلى تلك الخرائب لاجتثاث سمومها ، أو لإعاقتها عن النمو ، على الأقل ؛ حتى لا تكون مصدرا لترويج السموم في مجتمع لم يصبح بَعْدُ ، في سياقه الجماهيري ، قادرا على فضح حقيقة مروجي تلك السموم .

التقدم هو عدو المتطرفين التقليديين الذي سيلغي وجودهم بمجرد رسوخه في الواقع ؛ لأنهم لا يمثلون إلا الموقف المضاد : التخلف . وهم يعون هذه الحقيقة تماما . ومن المعروف بداهة أن هذا التقدم غربي الوجه واليد واللسان

كلما قلنا قد تجاوزنا القنطرة الأولى ؛ عاد بنا إخواننا المتطرفون إلى المربع الأول ، بل عادوا بنا مربعات لم تعد تُرى بالعين المجردة . وبصراحة ، لم أكن أتصور أن يوجد اليوم من يبحث عن حكم : ( السلام على غير المسلم ) ، وأن يناقش في المسألة وكأنها محل نقاش . لكن ، لا شيء خارج المعقول في السياق التقليدي . لقد تفاجأت بمجموعة من مُريدي التقليدية ، تطرح مسألة السلام على غير المسلم ، وهل هذا جائز أم لا . والمصيبة أن ( المعتدلين ) ممن يرون جواز السلام خاضوا في المسألة مع هؤلاء ، ودافعوا عن رؤيتهم في الجواز ، وكأنهم بهذا يضعون المسألة على طاولة البحث ، ومن ثم ، طاولة إمكانية التطبيق .

لقد كان مجرد طرح المسألة يُعد فضيحة إنسانية كبرى ، أكبر من مجرد وجود متطرفين لدينا ، يرون عدم جواز تبادل السلام مع غير المسلمين .

أنا هنا لا أتناول هذه المسألة ، فليست مجالا للتداول أصلًا في نظري ، ومن العار الذي يصل حد الفضيحة الأممية أن تكون مجالا للتداول . لكن ؛ لتُدرك حجم الفضيحة ، لك أن تتخيل مجموعة تدعي البحث والعلم ، وقد جلست تتناول : كيف يمكن استرقاق البشر الآن ، وكيف يمكن بيعهم وشراؤهم ، وعلى من يجوز بيعهم ، وإذا كان لديك رقيق مسلم ، فما وضعيته ، وما طريقة التعامل معه ..إلخ . هل يمكن طرح مثل هذه المسألة ، هل يمكن طرح إمكانية استرقاق البشر الآن ؟ ، هل يمكن نقاش هذه المسألة وكأنها قابلة للتطبيق في يوم من الأيام ؟ . أليست مسألة تاريخية تجاوزها الزمن ؟ . أليست مسألة تبدو بوضوح ، وكأن من يستجيزها ، فضلا عن أن يمارسها ، فهو في نظر العالم أجمع من كبار المجرمين ؟ . أليست تترسخ في الوجدان ، قبل أن يُعرف حقيقة عبر وسائط المعرفة ، أنه لا توجد دولة في العام ؛ إلا وتعد الاسترقاق أكبر جريمة بحق الإنسان ، وإلا فهي ليست دولة بالعُرف العالمي ، بل مجموعة من قطاع الطرق المتوحشين ؟

إذن ، كما أن مسألة استرقاق البشر لم يعد أحد يُفكرّ فيها مجرد تفكير ، فكذلك ينبغي أن يكون الشأن في التواصل الطبيعي مع الآخرين . في تقديري أن مسألة إلقاء ( تحية السلام ) على غير المسلم ، رغم هامشيتها اليوم في الجدلية الدينية / الإسلامية ، هي أبعد رمزية من مسألة الاسترقاق . الاسترقاق خضوع لنزوات الطمع أو العدوان ...إلخ . أما الامتناع عن تحية غير المسلمين ، فهو يعني أن يمارس المسلم أردأ الأخلاق وأرذلها وأشدها وقاحة مع الآخر ، وهو في حالة طبيعية ، ومن ثمَّ ، يرى أن ما يقوم به فعلا طبيعيا لا وقاحة فيه ولا عدوان ! .

هل نحن نفضح بهذا العرض جدليات وحوارات بضعة مجانين ، أم ماذا ؟ ، هل هو جنون صريح ، أم هو وضع شاذ أو وضعية شواذ تدخل في خانة اللامعقول التقليدي فحسب ؟! لا أدري ، لكن ، تصوّر أن جارك غير المسلم الذي قد تُجاوره لعشرات السنين ، أو زميلك في العمل الذي تقضي معه من الوقت أكثر مما تقضيه مع عائلتك ، تمرُّ به أو يمرّ بك ، أو تلتقيه بعد طول غياب ، فلا ترى أنه يستحق منك حتى إلقاء السلام ؛ لمجرد أنه غير مسلم . انظر إلى نفسك من بعيد بهذه الصورة ، انظر إلى الأمر من غير زاويتك ، تصوّر أن شعباً من الشعوب لا يرى جواز أن يلقي عليك التحية لمجرد أنك مسلم ، وأنه لذلك قد اتخذ منك موقفا عدائيا / وجدانيا ؛ دون أن تكون فعلت ما يسيء إليه في قليل أو كثير ، تصوّر أنه يكرهك ويرفض التواصل معك ؛ لمجرد أنك لا تنتمي إلى دينه أو وطنه أو عرقه . ألن تهمس في نفسك ، وربما تصرخ مندهشا ومعترضا ! ؛ فتقول : أية نفس منتنة تمتلئ بالحقد وتمور بالكراهية ، هذه النفس التي تُسقط أبسط صُور الروابط الإنسانية ، ولو في تبادل السلام الذي لا يعني أكثر من إلقاء الأمان ؟! ، الأمان الذي لا يقلق ولا يزعج إلا أولئك الذين لا يريدون أن تعيش البشرية في أمان .

في الحقيقة ، أن نشر وتشريع ثقافة الكراهية هو المراد من طرح مثل هذه المسائل للحوار ، واستحضارها من عوالم المجهول . ليست عملية بريئة ، ولم تأتِ عبثا في مثل هذا الوقت ، بل هي محاولة تأسيس لثقافة كراهية مُوجّهة خصوصا إلى الغرب ، ذلك الغرب مصدر الجرح النرجسي للذات ؛ بدليل أن كثيرا من مؤيدي عدم جواز إلقاء السلام على غير المسلم ، حددوه صراحة ب( اليهود والنصارى ) ، وهم يقصدون به الغرب تحديدا وحصرا . ولهذا ، فبقدرما يكون تناول هذه المسائل تشريعا لثقافة الكراهية التي تصنع التطرف ، بقدرما هو تعزيز للانفصال عن العصر الحديث الذي يقف على قمته الغرب عسكريا واقتصاديا وحضاريا وإنسانيا .

التقدم هو عدو المتطرفين التقليديين الذي سيلغي وجودهم بمجرد رسوخه في الواقع ؛ لأنهم لا يمثلون إلا الموقف المضاد : التخلف . وهم يعون هذه الحقيقة تماما . ومن المعروف بداهة أن هذا التقدم غربي الوجه واليد واللسان . وقد توصلوا بذكائهم المعهود ، إلى أنهم كي يمنعوا هذا التقدم الذي سيلغي وجودهم المعنوي ، لابد أن يضعوا الحواجز بين الناس / الجماهير وبين هذا الغرب ، أي بين الناس وبين المصدر الحقيقي للتقدم . ولهذا ، فطرحهم اللامعقول لمسألة : إلقاء السلام على غير المسلم ( = اليهود والنصارى = الغرب ) ، وتأكيدهم المحموم على تحريم التواصل ، هو في حقيقته دعوة مسعورة وحانقة لقطع الصلة ، حتى في أبسط صورها الرمزية ، بهذا العالم الغربي ، العالم الذي يقدم الوعي المضاد.

كثيراً ما تناولت إشكالية علاقتنا مع الغرب ؛ لأن علاقتنا مع الغرب خاصة ليست مسألة هامشية ، بل هي في حقيقتها وجوهرها ، وكما أكرر دائما ، علاقة مع العصر الحديث . لم يكن ما قلته في الغرب سابقا ، وما سأقوله لاحقا مديحا في الغرب ؛ رغم أنه يتراءى لعيون التقليديين وجماهيرهم كذلك . الغرب لا يحتاج مديحا ؛ لأن واقعه ومنجزه الحضاري أكبر من كل الكلمات ، ولن يضيره ذمُّ ذامٍّ ، كما لن ينفعه مدح مادح ، خاصة إذا ما كان التقييم خارجا من ثقافة ورؤية العالم الثالث الذي لا يزال يحبو ثقافيا . أي أن استحضار الغرب كواقعة حضارية إيجابية لم يسبق لها مثيل في التاريخ الإنساني ( رغم كل سلبياتها ) هو من ضرورات تعزيز حاضر الأنا ، هو فعل إيجابي لنا ، هو تدعيم للمسارات الإيجابية في حاضرنا ، وليس ثناء على الغرب ، رغم أنه لابد أن يظهر كذلك . ولهذا ، فعندما أضع الصورة الحقيقية للغرب في سياقها الصحيح ، فإنني لا أفعل ذلك من حيث كوني معنيا بالغرب ، فالغرب لم ولن يسمعني ، ولديه من كوادره الكفاية ، بل وما فوق الكفاية ، وإنما أفعل ذلك لأنني مَعنيّ ومهموم ومشغول أساسا ، بل وتحديدا ، بأمتي : أمة الوطن ، وأمة الثقافة ( = العرب ) وأمة الدين ( = المسلمين ).

إننا عندما نصنع صورة سلبية غير حقيقية للغرب ، عندما نتصور الغرب عدواً وهو ليس كذلك بحال ، عندما نضخ ثقافة الكراهية تجاهه ؛ فإننا لا نضر الغرب ، وإنما نضر أنفسنا . نحن الذين نحتاج الغرب في كل شيء ، وهو الذي لا يحتاجنا في أي شيء . هذه حقيقة بسيطة وواضحة ، يستطيع إدراكها من تجرد للحياد ، ورأى الأمور بموضوعية ، ولو لدقيقة واحدة . وكل ما سوى ذلك من التصورات السلبية عن الغرب ، فإنه لا يعكس واقع الغرب ، وإنما يعكس التشوهات الثقافية والنفسية التي نعاني منها . عندما نرى الغرب سلبياً ، فإننا لا نرى حقيقة الغرب ، وإنما نرى حقيقة أنفسنا ؛ بدليل أن العالم كله يرى الغرب بصورة تختلف عن رؤيتنا ، أقصد رؤية جماهير التقليديين .

إذن ، لابد من ثورة ثقافية للتعريف بواقع الغرب وبثقافة الغرب وبما قدمه الغرب للإنسانية جمعاء . لابد أن تتضح الصورة لدينا ، كما هي واضحة عند بقية الأمم باستثناء العرب وبعض المسلمين . متطرفو القومية وحاملو شعاراتها الجوفاء ، ومنظّرو الإيديولوجيات الإسلامية المتطرفة ، قاموا بزخ كم هائل من ثقافة الكراهية لهذا الغرب ، وصوّروه على أنه المعتدي والمستغل والحاقد ؛ رغم أن الغرب لم يتعمد الإساءة إلينا أو الإضرار بنا في يوم من الأيام ( أقصد الغرب الحضاري ، وتحديدا خلال القرنين الماضيين ، حيث اشتبكنا معه في حال تمدده الحضاري ) . بل على العكس ، أثرى الغرب حياتنا ، ونقلنا من حال إلى حال ، وحررنا من تخلفنا ؛ قدر ما سمحنا له بذلك ! . وكل ما نراه سلبياً من تصرفاته تجاهنا ، سنرى أنه سلبي فقط ؛ من وجهة نظر المتخلفين القانعين بالتخلف ، الذين يرون أن التخلف إلى درجة الموت أرحم من أن يتقدموا بواسطة الغربي الذي يذكّرهم نجاحه الكبير بفشلهم الكبير ؛ فكيف لو تقدموا على يديه ؟! .

إن خطاب هؤلاء المتخلفين هو الخطاب الذي لا يزال سائدا حتى الآن . ولهذا لا نزال متخلفين حتى الآن ؛ رغم كل المحاولات التي قام بها ، ولا يزال يقوم بها ، دعاة التحرر والتنوير ؛ لأن خطابهم خطاب علم وثقافة لا يصل مباشرة إلى الجماهير ، بينما يقطع الطريق دعاة التخلف باختطاف الجماهير بخطابهم العاطفي المباشر الذي يُرضي غرائز الغرور الطفولي الساذج لدى الجماهير ؛ عندما يقنعهم كاذبا ومزيفا ومزورا بأنهم الأفضل والأكمل ، وأن لهم من الأمجاد والبطولات والفضائل ما ليس لأحد من العالمين !.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف