تقديس علماء الدين.. تقديس للجهل أيضاً
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
صحيفة الوطن
لا تستطيع اليوم وبفضل ثقافة التقديس الأعمى لعلماء الدين أن تبدي وجهة نظرك في أي شيء يتعلق بالإنسان والحياة.
إن التقديس ''الأبله'' أعطى العلماء مساحة تفوق المعقول، حتى وصل بنا الأمر أن نصمت على الأخطاء العلمائية مخافة الوقوع في المعصية، كما أنتج هذا الفكر في المقابل قطعانا من البشر لا تملك القدرة على التفكير، فضلاً عن الاختيار الحر.
من جهتهم ''أي العلماء'' يعتبرون التقديس فرصة مناسبة لانتفاخ ذواتهم ومحطة جيدة للصعود على العقول المعطلة لملايين المسلمين، حتى وجدنا بعض علماء الدين المغمورين والفاشلين في حياتهم العملية والعلمية يستغلون هذا المفهوم للوصول إلى أهدافهم الرخيصة، ولمعرفتهم سلفاً أن هنالك مناصرين لهم ذوو ذهنيات إسمنتية يدافعون عن قداستهم ويشكلون حائط صد لكل منتقد لهم.
الواجب أن نحترم العلماء ''طبعاً ليس كل من لبس زيهم''، لا أن نقدسهم، فالاحترام للعالم الواعي والمدرك والمثقف والفاحص لدورات الزمن ومراحل الحياة، هذا هو المطلوب، أما أن نقدسهم فقط لكونهم يرتدون الزي العلمائي فهذا ''الجهل الخطير''.
إن أهم ما يمنع وصول كثير من المعارف الإنسانية والإنجازات الحضارية للمسلمين هو في وجود ''أشباه علماء'' من الذين يصرون على أن تبقى الأمة الإسلامية حبيسة التاريخ والماضي، ويمنعون بتطرفهم كل انفتاح من شأنه إثراء الواقع الإسلامي، فهم علماء الكهوف والجمود، علماء اللحظة ومنتجو الخرافات وصنَّاع البطولات السياسية المزيفة.
ليس العتب على هؤلاء العلماء بقدر عتبنا على من يسعى لصنعهم بهذا الشكل المسيء، مشكلتنا أننا قد ''ابتلشنا'' بعالم جاهل يقدسه مسلم مغفل، وبهذه التركيبة ''العبيطة'' ينتج واقعنا الإسلامي حراساً للعقيدة والدين والناس لا يقبلون من تطوير أدواتهم المعرفية، أو حتى من تحسين صورتهم أمام العالم.
علماء الدين هم بشر مثلنا؛ قد يخطئون ويكذبون ويسقطون ويغفلون ويفسدون، فعالم الدين هو شخص عادي تماماً، وكما قال السيد فضل الله: ''عالم الدين أساساً لا يختلف عن الناس الآخرين، فلا هو نبي ولا هو وصي، هو إنسان يملك ثقافة الفقه، مثل المهندس الذي يملك ثقافة الهندسة، والطبيب الذي يملك ثقافة الطب، كذلك فالمفروض أن يملك العالم الديني ثقافة الفقه والأصول أو ثقافة الإسلام بشكل عام، لذلك ليس من الطبيعي أن نحترم إنساناً أو نتبعه لمجرد شكله''.
لماذا يسمح عالم الدين لنفسه أن يقبل كل المسوحات المقدسة المسبوغة على شخصه العادي جداً؟ وكيف يتقبل أن يكون ظل الله في الأرض، فقط كي لا ينتقده الآخرون؟ لماذا لا يتواضع في وجوده كما يتواضع المهندس والطبيب والمخترع والقيادي والسياسي المخضرم والأديب، وكل من أعطوا الكثير من جهدهم وجهادهم للبشرية؟ ولهذا قال عنهم محطم القداسات الراحل السيد فضل الله ''إن العلماء ورجال الدين من مسلمين ومسيحيين أو غيرهم، ليسوا ظل الله على الأرض حتى نسقط عليهم صفات، ونمنحهم القداسة التي لا يستحقونها، ونتعاطى معهم كآلهة، ونخضع لهم خضوع العبد لسيده ونطيعهم طاعة عمياء ونمنحهم الألقاب الفضفاضة الكبيرة''.
فلنعطي كل العلماء، بل وكل البشر، حجمهم الطبيعي ونتعامل معهم من منطلق الاحترام المعتدل، وأن لا نحولهم إلى ملائكة معصومون عن الزلل، لأننا لو فعلنا ذلك فسوف ''نورطهم'' وسنضعهم إما في صفاف المعصومين -وهم ليسوا كذلك-، وإما في صفاف المهرجين -وهذا ليس مقبولا أيضا-.
مهما كانت سعة علم عالم الدين لا ينبغي أن نسقط أمام علمه وهيبته، بل عليكم أن تتركوا لنا مساحة غير مقدسة نتجول في فكره وآرائه، فقد نتفق معه في أشياء وقد نختلف معه في أشياء أخرى، خصوصاً فيما يتعلق بالشأن العام والحياة اليومية على أقل تقدير، لا أن تغلقوا كل المنافذ بيننا وبينه بحجة الهالات المقدسة التي يمتلكها علماء الدين أو أي شخص يملك علماً ومعرفة مضافة.
يقول السيد فضل الله ''إن علينا ألا نعيش عقدة الانبهار بالآخر أو الانسحاق أمامه، بصرف النظر عن الموقع الذي يملأه هذا الآخر، وألا نخضع لكل ما يقوله على أساس أنه الحق، حتى وإن كان هذا الشخص يمثل موقعاً علمياً أو سياسياً أو حتى قضائياً أو ما إلى ذلك، خصوصاً أننا في كثير من تجاربنا الماضية كنا الضحايا لهذه الثقة المفرطة بالآخرين، الذين انطلقوا من حساباتهم الذاتية أو السياسية لتكون قضايانا ضحية هذه الحسابات وهذه المخططات).. فهل وصلت الرسالة أم ما زلتم تكابرون أنهم مقدسون وسواهم مدنسون؟.