السودان على حد سيف الجنوب
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
الخرطوم - عماد حسن
يخيم على السودان الهدوء الذي يسبق العاصفة، مع اقتراب موعد انفصال الجنوب، إنه هدوء مريب، مشوب بالقلق من جهة وبالارتياح من جهة أخرى، القلق مما تحمله الايام المقبلة قبيل وبعيد الاستفتاء المثير للجدل، كأكبر قضية في تاريخ السودان الحديث بعد الاستقلال، حيث تمور الساحة السياسية بنذر صراعات دموية ومواجهات مسلحة وحشود على حدود مختلف عليها بين الشمال والجنوب، وتصريحات واتهامات متبادلة، وrdquo;ونسة سودانويةrdquo; مغموسة في شغف سياسي موروث، تدفع على الأقل لتحسس حزام السلاح .
في الجهة الأخرى، يسري الارتياح وسط قطاعات بعيدة عن مراكز القرار، مبعثه ان الأمور باتت واضحة، كالشمس حيث يسهل التعاطي معها، خلافاً لظلام الترقب والتشاؤم والامل، الذي فيهم خلال السنوات القليلة الماضية .فقد ارتفع مصطلح الانفصال رويداً رويداً من الغرف المغلقة وصالونات السياسيين، وهمس الاجتماعات، إلى مستوى أعلى جرياً على ألسنة قيادات وسطى، ثم تسلل المصطلح إلى الندوات وأعمدة الرأي في الصحف السيارة، وتوالى هندسياً، عبر البرامج السياسية والخطب الرسمية، لتنتقل الحمى إلى رجل الشارع، ثم تبلغ بسرعة إلى أعلى المستويات، بين رئيسي دولتي السودان، باعتبار ما سيكون، المشير عمر البشير والفريق سلفاكير ميارديت .
المتوالية الهندسية التي دفعت إلى ldquo;تطبيعrdquo; سريع لمصطلح الانفصال بين الجميع، تحركت بعيد الانتخابات الرئاسية والتشريعية في ابريل /نيسان الماضي، ثم الزيارات المكوكية لمبعوثي الادارة الامريكية، وخروج مفوضية الاستفتاء إلى العلن، والنسخة الجديدة للخلافات بين الشريكين، ثم اجتماعات نيويورك فزيارة وفد مجلس الأمن الدولي خلال الأسبوع الماضي .إذ تدهورت العلاقة المتأرجحة بين الشريكين، خاصة بعد اجتماعات نيويورك، واستخدام مصطلح الانفصال بشكل ldquo;طبيعيrdquo; بعدما كان من المحرمات، على مستوى رفيع وسط قيادات الطرفين، حينما جاهر رئيس حكومة الجنوب سلفاكير ميارديت برغبته الشخصية وقناعته في التصويت للانفصال عن الشمال، بل ذهب المسؤول الأول في الجنوب إلى الطلب لوفد مجلس الأمن الدولي الذي في مدينة جوبا، بنشر قوات حفظ سلام دولية في الحدود بين الشمال والجنوب، وتأسيس منطقة أمنية عازلة .
وسرعان ما انتشر الغضب في طاقم حكومة الخرطوم، ولم يترك الرئيس عمر البشير الرد هذه المرة لأحد معاونيه أو ناطقه الرسمي ليتولى بنفسه الرد على سلفاكير وامام تجمع كبير للرؤساء العرب والأفارقة في مؤتمر سرت مطلع الأسبوع، متهما حكومة الجنوب بالتراجع عن بنود اتفاقية السلام، ومحذراً من خطر تفجر صراع أسوأ اذا لم يتوصل الجانبان لتسوية الخلافات قبل اجراء استفتاء هناك بشأن انفصال الجنوب .ومعرباً عن أسفه لأن زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان ورئيس حكومة جنوب السودان سلفا كير أوضح علنا نية الانفصالrdquo; .
تحذير البشير، حمل تلميحاً ينسف اتفاقاً رئيسياً بين الطرفين حرصا على الجهر به في جميع المناسبات حتى اصبح من المسلمات، وهو الا عودة للحرب مطلقاً وفي كل الاحوال، فالاحتمال الذي اشار له البشير ldquo;اندلاع صراع كبير مع الجنوبrdquo; لا يقل عن الحرب، لأن الخلاف المستمر والذي وصل ذروته، لم يرق لوصفه بrdquo;صراع كبيرrdquo; من قبل .بل إن البشير كان اكثر وضوحاً حين قال ldquo;قد يكون أخطر من الصراع الذي كان دائراً قبل اتفاقية السلامrdquo; .
وتبعا لمراقبين، فان الشرط الذي يجنب الطرفين هذا الصراع يستحيل تحقيقه بعلم يقيني لدى الشريكين والاطراف الاقليمية والدولية الأخرى، فقد اشترط البشير لتجنب تلك الحرب تسوية الخلافات بشأن استفتاء تقرير المصير، وهو ما يصعب تنفيذه في ظل تراجع القيادة الجنوبية عن بنود اتفاق السلام، الاتهام الذي ساقه البشير في ذات المناسبة، وحتى الالتزام الاستراتيجي لحكومة البشير بإجراء الاستفتاء على تقرير مصير الجنوب تبعه شرط أن يعمل الطرفان على حل الخلافات بخصوص الحدود وتقاسم العوائد النفطية والديون ومياه نهر النيل، وكلها قضايا معلقة ومحل خلاف بين الطرفين .
بيد أن الحركة الشعبية قالت إنه يجب الا يستغل عدم احراز تقدم كمبرر لارجاء الموعد المقرر لبدء الاستفتاء في التاسع من يناير/كانون الثاني . وهو الموعد الاكثر قدسية في خطاب الجنوب والمجتمع الدولي، الذي أوفد أعضاءه في مجلس الامن ليخرجوا بعد أربعة ايام قضوها تجوالاً في السودان بالتمسك بموعد الاستفتاء واجرائه، وإلا فالطوفان . فقد تلخصت ملاحظات ومناقشات وفد المجلس في حث الجانبين على اجراء الاستفتاء في موعده تجنباً لنشوب حرب أهلية . وأبدى الاعضاء قلقهم تجاه الموعد المضروب بسبب ضيق الوقت والمشاكل العالقة بين الشريكين، بينما نالت دارفور، السبب الرئيس في الحضور القوي للسودان في المحافل الدولية، تنديداً بالعدائيات المستمرة بين الاطراف هناك، ومطالبة خجولة للحكومة باتخاذ خطوات فورية على رأسها التعاون مع البعثة المشتركة للامم المتحدة والاتحاد الافريقي ldquo;اليوناميدrdquo; لتحقيق السلام في دارفور .
ودفعت أجندة وفد مجلس الأمن حتى غلاة معارضي حكومة الخرطوم لانتقاده فقد انتقدت المعارضة تركيز الوفد على الاستفتاء وتهميش القضايا الأخرى، ووصفت اللقاءات معه بحفل استقبال وrdquo;علاقات عامةrdquo; وعبر رئيس حزب الأمة القومي الصادق المهدي، عن غيظه بالقول ldquo;كان ينبغي أن يكون هناك اهتمام بمشكلة دارفور وبالأثر السالب الذي ستفرضه نتائج الاستفتاء على إقليم دارفور ومناقشة ترتيبات حق تقرير المصير، ولكننا وجدنا أنفسنا في حفل استقبال .وهذا تقصير من مجلس أمن دولي في القيام بمهمته بمنع الحرب، واضاف ldquo;هذه الزيارة لا تؤخر ولا تقدمrdquo; .
ويكشف الخطاب السياسي المتبادل بين الشمال والجنوب، التخلي عن اتفاقية السلام التي حملت مصطلح ldquo;الشريكينrdquo; في نيفاشا وفي حكم السودان، وهي المرجعية التي ربما وأدها ldquo;اهلهاrdquo; حتى قبل نفاد صلاحيتها بأجلها المحدد بستة اشهر عقب الاستفتاء أو الانفصال، والتي نصت على انه ldquo;يتعين على الشماليين والجنوبيين محاولة جعل الوحدة امراً ذا جاذبية بالنسبة للجنوبيين قبل اجراء الاستفتاءrdquo;، لتتسع مساحة الاحتقان والتوتر خاصة بعدما تواترت انباء عن فشل مباحثات ldquo;اللحظات الأخيرةrdquo; في اثيوبيا حول منطقة ابيي المتنازع عليها، والتي لم تشفع لها حوافز ومقترحات ورعاية امريكية، ليحيل الطرفان أمرها إلى المحكمة الدستورية، وسط دهشة المراقبين حول الحد الأدنى لاتفاق الشريكين على حكم الدستورية .
ولا تنسحب دهشة المراقبين على احالة الأمر إلى مؤسسة قامت بدستور الاتفاقية الموؤودة فقط، بل إلى ldquo;التوقيت المتأخرrdquo; الذي ارتفعت فيه دعوات القادة العرب والافارقة بالتعاون الافريقي والعربي كشراكة استراتييجة، في قمة تأخرت 33 عاماً . وكما يقال ldquo;أن تأتي متاخراً خيراً من ان لا تأتي ابداًrdquo;، اعلن الزعيم الليبي معمر القذافي، بعد أقل من سنة عن ترحيبه بانفصال الجنوب في حديث مع سلفاكير ميارديت ابان زيارة الأخير إلى ليبيا، ان الانفصال شرخ سيكون له تداعيته الخطيرة على الخريطة الموروثة . واسهب في كلمة افتتاحية امام القمة بالقول ldquo;إن ما يجري في السودان مرض معد لكثيرين في الجوارrdquo;، ولفت إلى أنه يريد التنبيه إلى هذا الأمر لأنه إذا تم انفصال جنوب السودان سيصبح نموذجاً لتصدع دول أخرى . وأتهم العرب بالإساءة إلى الافارقة . . وقال إن ldquo;انفصال السودان ومهما كانت أسبابه ومبرراته حدث خطير سيكون نموذجاً مشجعاً لتصدعات أخرى في بلدان افريقية أخرى مؤهلة لذلك، وهو ما يعنى اعادة رسم خريطة افريقيا من جديدrdquo; . وتبع القذافي ldquo;عدد من الرؤساء في التحذير من مخاطر الانفصال، وسارعت القمة العربية الاستثنائية إلى اعتماد مبلغ مليار دولار لتأكيد اهتمامها بمستقبل هذا البلدrdquo; .
وتبدو المرحلة الآنية في السودان، كأنها ldquo;انفتاحrdquo; على كل شيء، فحتى الجيش الذي كان يعد خطاً أحمر ولا يصرح الا بقدر، لم يحرم نفسه خلال الايام الماضية من موجة التصريحات والاتهامات المتبادلة بكشفه عن حشود عسكرية في الحدود بين الشمال والجنوب، والتأكيد على استحالة اجراء استفتاء قبل ترسيم حدود، كشرط يتناغم مع الشروط الخمسة الاخرى التي وضعتها الحكومة لقيام الاستفتاء وابلغتها لوفد مجلس الامن، ونبهت على لسان وزير الخارجية علي كرتي إلى ان عدم تطبيقها سيؤدي لعودة الحرب بين الشمال والجنوب . قبل أن ترهن كذلك حل قضايا الاستفتاء ودارفور بحل ملف المحكمة الجنائية الدولية .
وشهدت مرحلة ldquo;الانفتاح على الانفصالrdquo; مؤشراً آخر لتلاهث الانفاس نحو يناير/ كانون المقبل، حينما هرع لام اكول رئيس حزب الحركة الشعبية للتغير الديمقراطي إلى جوبا في اجتماع نادر مع غريمه سلفاكير ميارديت متجاوزاً ldquo;الخلافات لفتح صفحة جديدة للتعاون، ووقف العدائيات والتصريحات السالبة بين الطرفين بمبادرة من القيادي الجنوبي والسياسي العريق بونا ملوال من اجل وحدة الجنوبrdquo; . ووصف اكول الاجتماع بأنه ldquo;ودي ورفض توصيفه بصفقة جنوبية الهوى والمقصدrdquo;، واعلن اتفاقه مع حكومة الجنوب على انجاح مؤتمر الحوار الجنوبي الجنوبي الذي ينطلق في جوبا الاربعاء ldquo;أمسrdquo;، وتجاوز مرحلة المرارات السابقة وفتح صفحة جديدة من التعاون، وذكر أن الطرفين تبادلا الاحترام والاعتراف بالآخر، وهو ما اعتبره المراقبون منحى جديداً للتحالفات الحزبية في الجنوب وترتيب البيت من الداخل قبل الاستفتاء، وسط قرارات نادرة من حكومة الجنوب بالعفو عن منشقين عسكريين وسياسيين، مثل الجنرالين قلواك قاي ومايكل قور اللذين قررا التوجه يوم ldquo;الخميسrdquo; إلى جوبا لاكمال حلقات الصلح مع حكومة الجنوب .
نشيد جنوبي
ورفداً لهذا المؤشر، بل توضيحاً للوجه السافر للدولة لجديدة في الجنوب، فقد شهدت مدينة جوبا منتصف الأسبوع منافسة كبرى لاختيار اللحن المناسب للسلام الجمهوري للجنوب واعتماده لينشد في حالتي ldquo;الوحدة أو الانفصالrdquo; . ولم يستغرب المراقبون خطوة أخرى مشابهة هي شروع حكومة الجنوب في عمليات تسجيل واسعة للناخبين الجنوبيين تحضيراً لاستفتاء أحادي في أربع ولايات جنوبية، وهي الخطوة التي كان زعيم الحركة الفريق سلفاكير قد هدد باللجوء إليها حال عدم مشاركة المؤتمر الوطني في هذه العملية، والتي سرعان ما اعتبرتها مفوضية الاستفتاء تصب في اتجاه التراشق ldquo;فقطrdquo; بين الشريكين، بينما يقول أحد الخبراء أن إعلان انفصال الجنوب من جانب واحد لن يضيف للجنوبيين شيئاً، أن الجنوب دولة شبه قائمة لاينقصها إلا مقعد في الأمم المتحدة .
مجلس الأمن الذي انهى زيارة فاترة للسودان خلال هذا الأسبوع ووضع اللمسات الأخيرة بالضغط على الشريكين من أجل تقديم تنازلات لضمان اجراء الاستفتاء، لم يضمن استفتاء ldquo;آمنا ونزيها ومقبولاًrdquo;، بل ان زيارته صبت الزيت على نار واقع سياسي معقد ومتفاقم بين الشمال والجنوب .كما اثارت الزيارة حيرة اعضاء المجلس الذين شهدوا في الجنوب موقفاً سياسياً يختلف عن دارفور، ومشهداً مختلفاً في الخرطوم، فقد حشدت الحكومة التي ارتفعت اصوات قياداتها بلهجة الانفصال، نحو 3 آلاف مواطن مؤيدين للوحدة، أو على الأقل يرفعون شعاراتها، في وقت لفت الانتباه مشاركة نحو اقل من 50 انفصالياً أدى علو صوتهم إلى حدوث مواجهات دفعت قوات مكافحة الشغب للتدخل .كما دفعت رئيس الوفد السفير البريطاني مارك غرانت للقول فى مؤتمر صحافى بالخرطوم ldquo;ان جميع اعضاء مجلس الأمن يتفهمون الآن وبشكل جيد التحديات التى تواجه السودانrdquo; .
لم يبق للتمسك بشعرة الوحدة الا بصيص امل يبدو كأضعف الإيمان من بين عبارات احد المراقبين، وهو يقول في خطاب مفتوح لرئيس تحرير صحيفة داعمة لخط الانفصال ldquo;يجب ان نبكي دمعاً لأن مخطط انفصال الجنوب اذا حدث فهو تحقيق لأجندة ليست سودانية، وان كنا نحن السودانيين ملزمين بتطبيقها، ويجب ان نبكي اذا فاتنا قطار الدعوة للوحدة، وذلك لتقاعسنا عبر الفترة الماضية عن تقديم الاخلاق الاسلامية بصورتها الطيبة، فلجأنا إلى تهنئة الاخوة المسيحيين في اعيادهم ونسينا كيفية تقديم القيم الاسلامية التي تجعل الأخوة لا يحسون بالظلم، وسماحة الاسلام في دينهم وحقوقهم، وتركنا ان تتسلل اليهم الأيادي التي تريد أن تنزعهم مناrdquo; .
ويشير المراقب إلى أنه بالرغم من أن البوصلة تشير للانفصال لعوامل خارجية وتراكمات داخلية، فإن ذلك لا يعني الاستسلام . ويتمسك المراقب حتى آخر لحظة بالدعوة للوحدة، وهو يقول ldquo;لذلك يجب تقديم كل ما يمكن من أجل وحدة البلاد حتى آخر جزء من الثانية قبل الاستفتاء لأن سنن الكون قد تتبدل وتتغير عكس التوقعاتrdquo;.