الأزمة العربية بين الهوية والتحول
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
برهان غليون
أمام ما يظهر للناظر من أوضاع بائسة تعيشها المجتمعات العربية المعاصرة، يكاد القسم الأكبر من المحللين والباحثين يعرض عن الأخذ بالمقاربات التي طورتها العلوم الاجتماعية الحديثة والتي تنظر في الشروط التاريخية، الجيوستراتيجية والاقتصادية والاجتماعية، لولادة النظم الاجتماعية وتحولها، وينزع مقابل ذلك إلى البحث عما يعتقد أنه الجذور الأبعد للداء، تلك الجذور التي تتصل بالشخصية أو الهوية أو الثقافة أو الدين. وفي هذه المقاربة لا يكون الاضطراب والضياع، وربما الشلل الذي تعرفه هذه المجتمعات، هنا وهناك... حالة طارئة تعبر عن تحولات اجتماعية أو سياسية أو ثقافية داخلية، وعن تبدل البيئة الخارجية وتحولها، وإنما تعبير عن علل كامنة تمس بنية الشخصية الثقافية أو ما يسمى العقل الجمعي. من هنا تأتي موجة النقد الذاتي التي نشهدها، والتي تصل أحياناً إلى حد الندب والجلد، لتتجاوز كل معايير التحليل المنطقي، في محاولة لإثبات وجود عاهات موروثة يتعذر علاجها دون الخروج من الذات أو القبول بمعاداتها!
وفي الواقع فإن معظم المقاربات الثقافوية تنزع إلى تأكيد عنصرين: الخصوصية التاريخية النابعة من فرادة التطور، والجوهرانية النابعة من النظر إلى المجتمعات كما لو كانت تجسيداً لجوهر روحي ومادي جامد لا يتغير.
وفي اعتقادي أن كل ما تعرفه المجتمعات العربية اليوم من ظواهر سلبية؛ في أنماط إنتاجها، وأساليب حكمها وسياساتها، علاوة على عقمها الثقافي البادي للعيان... لا يمكن فهمه لا من داخل الدين ولا الثقافة ولا التراث، وإنما يعود بشكل رئيسي إلى الإجهاض الذي تعرضت له مسيرة التحول والتقدم التي انخرطت فيها تلك المجتمعات قبل حوالي قرن، وكان يفترض أن تنقلها من أنماط الفكر والسلوك والإدارة والحكم القديمة نحو أنماط حديثة، مستدركة التأخر التاريخي الذي لحق بها نتيجة جمود وتلكؤ نخبها القائدة خلال القرنين الماضيين.
وبعكس ما تشيعه الأدبيات الرائجة، كانت المجتمعات العربية طليعية في دخول مغامرة الحداثة، لأنه لا يوجد في ثقافتها الزمنية والدينية ما يعيق النظر العقلي والتجديد الفكري والديني: لا سلطة بابوية، ولا تقاليد إقطاعية ثابتة ومتجذرة. فمحمد علي باشا سبق اليابان إلى شق طريق التحديث منذ بداية القرن التاسع عشر، وبقيت مصر أكثر تقدماً، من الناحية الصناعية والعلمية والتقنية، مقارنة بمعظم بلدان أوروبا حتى الربع الأخير من القرن نفسه. ورغم الضغوط والتهديدات الاستعمارية، فقد استمر -وإلى وقت قريب- النزوع داخل المجتمعات العربية ونخبها الثقافية وأحزابها السياسية وقواها الاجتماعية الصاعدة، قوياً من أجل التغيير والتحديث واللحاق بالعصر. ولم تستطع الهيئات الدينية المحافظة أن تحبط هذا التحرك القوي في اتجاه التغيير أو أن تشكل عقبة تذكر أمامه، بل إن رجال دين تقدميين وإصلاحيين ساروا في اتجاه التحويل والتحديث لمجتمعاتهم ونظّروا له ودعموه، كما فعلت الحركة الإصلاحية الإسلامية. ولم يضعف سقوط الأقطار العربية تحت الاحتلال من زخم تيار الحداثة والتحديث. ففي ظله نشأت الحركات الوطنية حول مفاهيم وقيم ومطالب حديثة في بناء الدولة والأمة والسياسة والشورى والديمقراطية، وولدت الأحزاب الليبرالية والاشتراكية والقومية. وما أن تحقق الاستقلال حتى انطلقت مسيرة التحديث والتقدم بأقوى صورها، رافعة شعار القومية العربية التي حددت أهدافها باستكمال الاستقلال وتوحيد الوطن العربي ومواجهة النفوذ الأجنبي، وبناء أمة حديثة، وإحداث ثورة صناعية وتقنية وعلمية شاملة.
من هنا كانت الصدمة قوية عندما ظهر إخفاق هذا المشروع، أعني مشروع الانخراط الإيجابي في روح العصر، وتأكيد السيادة الكاملة، وتطوير البنى الاقتصادية والعلمية للعالم العربي. وسوف ينقلب الحلم إلى كابوس عندما يفتح الفراغ الأيديولوجي والسياسي الذي خلفه إجهاض مشروع النهضة والتقدم الباب أمام عودة القوى القديمة، والتي كانت تنتظر الفرصة لتنقض على منجزات المشروع التقدمي وإقامة نظامها الخاص وتعزيزه في وجه أي معارضة قادمة.
وإذا تأملنا في كل ذلك، سيكون من السهل أن نكتشف بأن جذور الأوضاع المأساوية التي نعيشها، لا تمتد بالضرورة بعيداً في التاريخ، وإنما تكمن في النظام الاجتماعي والإقليمي الجديد الذي ولد على أنقاض النظام القومي العربي الذي رفع توقعات العرب التاريخية إلى السماء قبل أن يتركهم يسقطون صرعى أمام خصومهم التاريخيين. ففي سياق هذا النظام الجديد، أمكن لإسرائيل التي لم تكن تطمح لشيء أكثر من الاعتراف العربي بوجودها، إطلاق مشاريع التوسع الاستيطاني في ما تبقى من فلسطين وسواها من الأراضي العربية المحتلة، وفيه استعادت الدول الغربية النفوذ الذي فقدته أو كادت، وأصبحت تشارك بقوة في أجندة السياسة الإقليمية وتوجهاتها، وصعدت طبقة رجال المال والأعمال على انقاض ما كان يسمى الاقتصادات الوطنية المركزية المعتمدة على ملكية الدولة والخطط التنموية والأهداف السياسية الوطنية الواضحة.
ولو أردنا الاختصار، لقلنا إن عوامل الأزمة العميقة التي تعيشها المجتمعات العربية، والتي تضعف من إنجازاتها وتفسد مضمونها في جميع الميادين، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، تتلخص في أربع كلمات رئيسية: الاحتلال، التبعية، الاستبداد، واقتصاد الهدر. هذه هي مصادر الأزمة الفعلية، وما تبقى قنابل دخانية، لا قيمة لها سوى في طمس العلل الحقيقية والتغطية عليها وتبريرها.