جريدة الجرائد

جذور الغضب الأميركي

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

عادل الطريفي

هناك غضب عارم في أميركا اليوم، حيث لا تخلو قناة تلفزيونية، أو إذاعية من حوارات ساخنة وصاخبة حول الوضع الداخلي، وحيث تنتشر المظاهرات والتجمعات الشعبية الناضحة بكم هائل من الغضب تجاه الظروف السياسية والاقتصادية التي تمر بها البلاد. كثير من هذا الغضب ينصب على الرئيس الأميركي باراك أوباما على وجه التحديد، الذي يجد نفسه هذه الأيام في حالة من الانفصام عن الجمهور وهو صاحب الكاريزما الجذابة. الجزء الآخر من الغضب ينصب على كل ما هو غير أميركي، بمن في ذلك المهاجرون، والمثليون جنسيا، وأصحاب الديانات غير البروتستانتية، مثل الكاثوليك واليهود والمسلمين.

هذه الموجة العاتية من الغضب والسخط يقودها بشكل موسع تيار "التي بارتي" المحافظ الذي تنامى خلال هذا العام إلى قوة مؤثرة وفعالة، بحيث استطاع المرشحون المرتبطون به هزيمة رموز كبيرة ومعتدلة في الوسط الجمهوري التقليدي. مما دفع زعماء الحزب إلى الرضوخ للأصوات الراديكالية في التيار الجديد، إما خوفا من فقدان مواقعهم، وإما رغبة في استغلال القوة الشعبية لهذا التيار في هزيمة الديمقراطيين في انتخابات الشهر المقبل.

لعل السبب الرئيسي الذي يغذي حالة الغضب هو تنامي موجة "عداء المؤسسة الحاكمة" في المجتمع الأميركي. تيار "التي بارتي" الذي يستعيد تاريخ بدايات "الثورة الأميركية"، وانتفاضة المستعمرين ضد الحكم البريطاني ورفضهم دفع ضرائب الشاي من دون أن يكون لهم تمثيل سياسي، هو في حقيقته رد فعل على تنامي حجم الحكومة الفيدرالية بشكل مفرط من دون أن يعود ذلك بنفع على الأحوال الاقتصادية. لقد أدى الانتصار الكاسح لباراك أوباما وحصول الديمقراطيين على الأغلبية في مجلسي الشيوخ والنواب إلى مرحلة انتعاش في التشريعات الليبرالية، بحيث شعر اليمين التقليدي بحالة من العزلة والغضب المتنامي تجاه ما يعتبرونه هجمة ليبرالية تهدد بتقويض القيمة المحافظة. تيار "التي بارتي" ليس حزبا، وربما كان هذا مصدر قوته، لأنه بات يؤثر على أجندة الحزبين في وقت واحد، فعدد غير قليل من أعضاء الكونغرس الذين يواجهون إعادة التجديد في ولاياتهم يستشعرون الخطر الداهم من تنامي العداء للمؤسسة الحاكمة في واشنطن، ولهذا فإن الجمهوريين وعددا من الديمقراطيين يحاولون إثبات استقلاليتهم عن الإدارة الأميركية التي يرونها مهددة بسبب تدني شعبيتها لمستويات خطرة، ثم لأنهم يعتقدون أن قدرة الرئيس الأميركي على إنعاش الاقتصاد واسترداد الوظائف ستظل معلقة في كونغرس شبه منقسم ما بعد نوفمبر (تشرين الأول) المقبل.

حتى الآن، فإن المطالب الرئيسية لتيار "التي بارتي" تتمثل في معارضة قانون الإنقاذ الاقتصادي الذي أصدره الرئيس بوش في 2008، وقانون التعافي وإعادة الاستثمار 2009، وقانوني الإصلاح الصحي 2010 اللذين دفع بهما الرئيس أوباما. بيد أن المهم هو الطريقة الصاخبة والغاضبة التي يعبر بها أصحاب التيار عن معارضتهم للتمدد الحكومي وزيادة الضرائب، بحيث سجلت الوكالات الفيدرالية أعلى معدل للاستنفار الأمني، لا سيما بعد وصول التهديدات بحق الرئيس أوباما إلى حدودها القصوى.

لا شك أن حالة التجاذب بين اليمين المحافظ، واليسار الليبرالي ليست جديدة. فمنذ عهد الاستقلال والاختلافات موجودة ومستمرة. ما يميز المرحلة الراهنة ربما هو انحسار التيار الوسطي التوفيقي الذي كان على الدوام صمام الانسجام والتوازن في الحياة السياسية الأميركية. يشير صموئيل هينتغتون إلى أن جذور الغضب الأميركي الموجودة اليوم تختلف عما كانت عليه في السابق. صحيح أن الصراع بين قيم الشمال والجنوب كان لحظة مهمة في تشكيل الهوية الوطنية الأميركية. بيد أن ما بقي في النهاية هو الأخلاق "الأنجلو - بروتستانتية"، وليس المذهب البروتستانتي، التي جعلت من الممكن خلق مجتمع تعددي، متسامح، يؤمن بالفردية، ومسؤولية الحاكم، وأخلاقيات العمل. وهي ذات الثقافة التي سمحت بتقبل المهاجرين من أنحاء الأرض، والتي أرست قاعدة حرية الدين والتعبير، وأن الحكم لا يكون على عرق أو لون المرء، بل على قيمته كإنسان والمبادئ التي يؤمن بها. ولهذا فإن المسألة العرقية والإثنية، كما يشير هينتغتون، لم تعد مؤثرة في المجتمع الأميركي. بيد أن مصدر الغضب الجديد هو في تعرض تلك الثقافة إلى تأثير هويات وثقافات أخرى، لا سيما منذ الستينات حين اتسعت دائرة الهجرة اللاتينية والآسيوية، وظهور ولاءات وطنية ودينية عابرة للحدود، وغير متوافقة مع مبادئ وأخلاقيات الثقافة "الأنجلو - بروتستانتية" (من نحن: تحديات الهوية الوطنية الأميركي (2004.

بعد أحداث 11 سبتمبر وجدت الهوية الأميركية نفسها في مواجهة حادة مع هويات معادية، ولهذا أصبحت عصبية ودفاعية، ومشدودة إلى الداخل. استمرار الأزمة، لا سيما مع تصاعد العداء لأميركا حول العالم، قاد إلى تقوية الأصوات الراديكالية والمتطرفة في آرائها وطروحاته ضد ما يعتبر تطرفا وأصولية على الجانب الآخر. بروز حركة "المحافظين الجدد" كان نتاجا طبيعيا، فقد استطاعت أن تعطي لأميركا إجابة واضحة لفهم ومعالجة الأزمة: "هم يختلفون معنا، لأنهم لا يؤمنون بالحرية مثلنا". هذا الطرح صحيح نسبيا، لأن المجتمعات التي لا تؤمن بالأخلاقيات والثقافة "الأنجلو - بروتستانتية" ليست بالضرورة ترى الحرية من ذات المنظور الأميركي مهما كان صحيحا وعادلا، لأنها باختصار ليست أميركا. لقد كان المحافظون الجدد مثاليين على طريقتهم. بيد أن تيار "التي بارتي" يؤمن بأن المبادئ والمثل الأميركية (American Creed) خاصة بأميركا، وأن لا مكان في أميركا لغير الأميركيين. أي أن تيار "التي بارتي" على الرغم من كونه محافظا فهو على الجانب الآخر من الجدل مع "المحافظين الجدد" لأنه لا يؤمن بضرورة تصدير "الديمقراطية الأميركية" للخارج، بل هو أكثر انعزالية والتصاقا بشؤون الداخل.

هي مرحلة مهمة هذه التي نعيش فيها، ولكن ما يميز المجتمع الأميركي هو قدرته على احتواء خلافاته والخروج منها بدروس جديدة. ولعل أهمها أن الجدل الأميركي ليس فيه غالب أو مغلوب، بل هو امتداد طبيعي لحيوية الأفكار وتطور المجتمعات، وفي النهاية فإن محرك الجدل الرئيسي خلال هذه الانتخابات هو البطالة والتباطؤ الاقتصادي، على الرغم من كل الصخب الأيديولوجي الحاد.

في روايته الخالدة "الصخب والغضب"، يحكي ويليام فولكنر حكاية عائلة كومبسون الأرستقراطية الجنوبية، التي شهدت خلال بداية القرن الماضي انحسار القيم الجنوبية وانهيار العائلة وزوال ثروتها في مشهد تراجيدي مهيب: "أعطيك إياها، لا لتتذكر الوقت، بل ربما لتنساها بين آن ولحظة فتذكرها لا لتضيع الأنفاس في استعادتها. لأن المعارك لا تكسب أبدا، قال. هي أصلا لا تجري. الميادين تكشف للرجل حماقته ويأسه، والنصر هو وهم الفلاسفة والحمقى".



التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف