جريدة الجرائد

«القنوات الدينية» و«الفلتان» الفضائي!

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

سليمان الهتلان

الجدل الحالي حول إغلاق بعض القنوات الفضائية الدينية يعكس - من ضمن ما يعكسه - حيرة تجاه ظاهرة الفضائيات العربية. فأين الخط الفاصل بين الحرية الإعلامية المنشودة وبين استغلال الفضائيات لتجييش الناس، وخاصة من الشباب، ضد المذهب المختلف أو الرأي الآخر؟ وعلى من تقع مسئولية تحديد "المقبول" للبث وغير المقبول؟

نحن هنا -فعلاً- أمام حيرة من أمرنا. فإن طالبنا بتهذيب ما يبث عبر الفضائيات، خاصة الدينية منها، قيل إننا نطالب بتكميم الأفواه وبقمع الرأي المخالف. وإن سكتنا فكأننا نقر بشرعية هذه الممارسة التي يمكن - مع الوقت - أن تخلق فتنة في كل بيت. لكن ما يقال عن الفضائيات الدينية يمكن أن يقال أيضاً عن بقية الفضائيات الأخرى، من إخبارية وثقافية ورياضية وغيرها.

باختصار، أغلبنا يعرف أنه ما من وسيلة إعلامية عربية إلا وتخدم أجندة ما لحزب سياسي أو تيار سياسي أو حكومة أو مجموعة تهيأ نفسها لمرحلة قادمة من صراعات على السلطة والمال والجاه. لكن الخطر الداهم الآن، خاصة في ظل ظروف إقليمية مرتبكة تستخدم الطائفية والمذهبية سلاحاً خطيراً في صراعاتنا السياسية من أجل نفوذ أكبر في المنطقة، هو في تلك القنوات الدينية المنتشرة في الفضاء العربي بشكل مخيف. فإذا كنا نخشى على شبابنا من الانحرافات الفكرية التي يمكن أن تقودهم إلى دهاليز التطرف والتكفير فكيف نسمح لبعض الأفكار المتطرفة -والتي تُستخدم في كثير من الأحيان لخدمة أجندات سياسية- أن تدخل بيوتنا وغرف نومنا في آخر الليل وفي عز الظهيرة؟

المشكلة الحقيقية هي في غياب نظام إعلامي عربي شامل تتبناه مؤسسات غير حكومية وتحرص على تنفيذه جهات قضائية ذات استقلالية لا تسمح بتدخل السياسي ولا تعطيه فرصة لفرض أجنداته على هكذا نظام. تلك فكرة بعيدة المنال في عالمنا العربي لأن تحقيقها مرتبط بمنظومة كبرى من المطالب المهمة مثل الفصل بين السلطات والتأسيس لمفاهيم تعزز من استقلالية الوسائل الإعلامية وقائمة طويلة بشروط مهنية وقانونية أساسية بيننا وبين تحقيقها مسافات طويلة جداً! نحن هنا نعود الى نقطة الصفر! من يمول الإعلام في منطقتنا هو من يوجهه ويتحكم في مساره وفي محتواه. تلك حقيقة! وهنا المشكلة.

السؤال هنا: كيف نطالب بـ "تقنين" الفضائيات الدينية ولا نطالب بـ "تقنين" القنوات السياسية؟ وإذا كنا نحذر من خطر كثير من تلك القنوات التي تقدم الشعوذة والسحر والأفكار المتطرفة باسم الدين فماذا عن تلك القنوات التي تقدم السم والانحلال الأخلاقي باسم الفن والثقافة والانفتاح؟

كلاهما عندي يمثلان الخطر ذاته وينشران نفس المرض وإن بأشكال وصور مختلفة. فتدمير"قيـم" المجتمع، وخلق هذه الفوضى غير الخلاقة في المرجعيات الأخلاقية وفي المفاهيم "القيمية" التي يفترض انها محددات "الصح" و"الخطأ" في السلوك الإنساني، لا تقل خطورة على المجتمع من تلك الأفكار التكفيرية التي تقود الى التطرف والفوضى. بل إن الثانية -الهبوط بذائقة المجتمع وتقديم التافه والسطحي باسم الفنون والثقافة- ربما أسهمت، وإن بأشكال غير مباشرة، في خلق ردات فعل حادة ربما قادت المرء للهروب نحو أفكار التطرف والتشدد تكفيراً عن ممارسة سابقة أو هربا من جحيم صراع القيم وتناقضاتها!

إننا اليوم بأمس الحاجة لـ "صحوة" ضمير العقلانية التي تفهم جيداً معطيات العصر لكنها لا تتنكر لمنظومة القيم المتوارثة بما يمكّن تكوين أجيال متصالحة مع ذواتها ومع واقعها.

ومن هنا تأتي المطالبة بحوار صادق وجاد حول واقعنا الإعلامي وآليات عمله وشروطه المهنية. ومهما كانت "الأجندات" السياسية محركة أو محرضة لحراكنا الإعلامي من المهم ألا تكون "القيم" الخلاقة في المجتمع ضحية اللعبة السياسية. ولدينا من التجارب المريرة ما يفترض أن يكون "صافرة الإنذار" لمخاطر قادمة. فها نحن اليوم ندفع ثمناً قاسياً لإقحام "الخطاب الديني" في متاهات اللعبة السياسية الإقليمية والعالمية. وظهور الجماعات الدينية التي آمنت بالعنف أداة أساسية للتغيير لم يأت من فراغ. فما زرعه السياسي بالأمس يجني ثماره اليوم! وتلك لعبة لابد أن تتوقف وإلا خسر الجميع، بما في ذلك كبار اللاعبين أنفسهم!

إذاً، يبقى هذا الفلتان التلفزيوني، في الفضاء العربي مشكلة حقيقية تزداد مخاطرها باليوم الواحد.

ثمة لاعبون جدد قد لا يجيدون "أصول اللعبة"، وهناك آخرون ربما يسعدهم أن تدخل قنابل الفتنة الطائفية والفكرية كل بيت في الجغرافيا العربية. فكيف نبقى صامتين ونحن نشهد هذا "الدمار" يحلق فوق رؤوسنا ويكاد يسقط البيت فوق رأس الجميع؟

يبقى أن نشير إلى أن اللوم هنا يشمل كل اللاعبين في فضاء الإعلام العربي، الجدد منهم والقدامى، اللاعبون وفق حسابات السياسة واللاعبون وفق نزوات الشهرة والثراء!


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف