المتباكون على حرية الإعلام!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
شريف عبدالغني
بعد يوم عمل شاق، جلس أحد أقاربي بعدما تناول عشاءه أمام شاشة إحدى القنوات الدينية التي اعتاد مشاهدتها، فالرجل مثل غالبية العرب متدين بالفطرة ويفضّل من وجهة نظره مَن يدعون إلى الفضيلة عمن يدعون إلى الفجور.
كان مهموما في ذلك اليوم، فقد أظهرت التحاليل التي أجراها مؤخرا أنه انضم إلى قافلة المصريين المصابين بفيروس الالتهاب الكبدي "سي"، التي تضم حتى الآن نحو عشرة ملايين نسمة وهو الرقم المعلن عنه، ووسط همومه لمح بارقة أمل تأتي من شاشة التلفزيون، استدار في جلسته وأنصت للحلقة التي كانت تستضيف أحد أطباء الكبد، أو هكذا يزعمون.
راح الطبيب يتحدث عن دواء جديد مستورد من الولايات المتحدة يقضي تماما على الفيروس. غمرت الفرحة قلب الرجل، خاصة أنه يسمع بأذنيه اتصالات من مشاهدين يؤكدون أنهم جربوا العلاج، ومنّ الله عليهم بالشفاء، وراحوا يقدمون أسمى آيات الشكر لهذا الطبيب الفذ.
انتهت الحلقة ولم يكذب الرجل خبرا، واتصل فورا برقم الطبيب الذي ظهر على الشاشة، فرّد عليه بالسلام المعتاد والتمنيات بالشفاء.
عرض صاحبنا حالته فأكد له الطبيب أن العلاج سيأتي معه بنتيجة مؤكدة إن شاء الله. وحينما سأل المريض الطبيب: "لكني أريدك أن تراني لتكشف عليّ أولا" أجابه الأخير: "حقيقة أنا مشغول لأني مسافر إلى عدة دول عربية لأن الطلبيات على العلاج كثيرة"، فرد الرجل: "ما شاء الله، وربنا يكون في عونك".
هنا عقد العزم على شراء هذا الدواء ولو كلفه ما يدخره لأولاده، وطلب منه الطبيب أن يضع ثمن العلاج "بالدولار" في حساب له بأحد البنوك.
دفع صاحبنا المبلغ الكبير بطيب خاطر إضافة إلى مصروفات أخرى خاصة بالشحن وخلافه. لم يظن أبدا أنه سيقع في عملية نصب.. فالقناة التي استضافت الطبيب هي قناة دينية تقدم البرامج الهادفة، ويطل على شاشتها شخصيات متدينة، ولا يمكن أن تكون الاتصالات الكثيرة التي أشادت بهذا الطبيب خدعة وفخا للنصب على المرضى الآملين في الشفاء.
بعد فترة، وصل الدواء إلى منزل قريبي، وأتى به شخص زعم أنه مندوب من إحدى شركات البريد. أي أن مريضا سيحصل على دواء سيشفيه في غمضة عين من هذا الفيروس اللعين الذي لم يفلح أعتى أطباء الغرب حتى الآن في الوصول إلى عقار ناجع له، والمفارقة أن الطبيب لم ير المريض مطلقا واتخذ كافة الاحتياطات التي تغنيه عن أي مساءلة قانونية، حتى المبلغ الكبير الذي حصل عليه وضعه المريض في البنك، دون أن يذكر بالطبع أنه خاص بشحنة دواء أو شحنة جرجير.
لما عرفت بالأمر اصطحبت قريبي إلى طبيب كبير متخصص في الكبد، فكانت المأساة الإضافية أن هذا العلاج ما هو إلا تجميعة أعشاب بدائية لا تساوي شيئا، بل يمكن أن تتسبب لمن يتناولها في مضاعفات مرضية أكثر.
هذه مجرد حكاية واقعية عن إحدى القنوات التي قررت شركة "نايل سات" إغلاقها مؤخرا، ورغم أنه لا أحد يختلف على حرية الإعلام، فإنه لا عاقل يصمت أيضا على اقتحام مثل هذه القنوات للبيوت والنصب على الجمهور مستغلة عاطفتهم الدينية، فضلا عن ترويج الفتنة في المجتمع بتكفير المسيحيين، والتشكيك في عقيدة الشيعة! إنهم يجنون الأرباح على حساب كيان أمة وجيوب الفقراء.
هذه الخطوة تأخرت كثيرا، وأعرف أن البعض سيتهمني بالازدواجية، فكيف أكتب كثيرا من قبل عن الحرية والليبرالية، ثم أقف اليوم لأشيد بإغلاق قنوات إعلامية.
ولمن يوجه لي اللوم أسأله: هل هذا هو الإعلام الذي نريده؟ وهل القنوات التافهة التي تذيع كليبات أقرب لـ"البورنو" التي طال بعضها قرار الإغلاق مفيدة للمجتمع؟ هل ترْك الساحة أمام كل من هبّ ودبّ لينشئ قناة تساهم في تدمير العقل العربي وتساهم في انغلاقه ورفضه للآخر هو كل المراد من رب العباد؟
أعادتني هذه الوقائع إلى عام 2000، حينما شنت جريدة "الشعب" المعارضة -إحدى أشهر الصحف الحزبية المصرية وقتها- حملة ضد الحكومة لنشر وزارة الثقافة رواية الأديب السوري حيدر حيدر "وليمة لأعشاب البحر". وحقيقة لم تكن الحملة لوجه الله، فقد كانت الجريدة أيامها في صراع قضائي مع وزير الزراعة السابق، وارتأتها فرصة للضغط على الحكومة بشحن الناس ضدها بأنها تنشر رواية "فاجرة تهين الدين"، وذلك في محاولة لـ "ليّ ذراع" السلطة ودفعها للتنازل عن قضاياها ضد الجريدة.
ووصلت الحملة لخطوة غير مسبوقة حينما خرجت الصحيفة بمانشيت مثير لأحد كتابها -وهو الأستاذ محمد عباس- يناشد الشباب "بايعوني على الدم" لحثهم على التحرك لوقف نشر الرواية، والنتيجة أن خرج الآلاف من طلبة جامعة الأزهر ليخربوا كل ما في طريقهم احتجاجا على نشر "الحكومة الكافرة" هذه "الرواية الفاجرة"!
والمحزن أن الطلبة استجابوا لدعوة عباس وتظاهروا وخربوا بسبب عمل أدبي اعترفوا أنهم لم يقرؤوه أصلا. ولأنه كان -غير الجريدة- أشطر في "ليّ ذراع" الحكومة، فقد صدر قرار بوقف صدور "الشعب"، وهو قرار صائب من وجهة نظر كثيرين، ما دامت الحرية ستؤدي إلى إشعال الوطن.
الأمر نفسه حدث مع إحدى الصحف التي نشرت على 4 صفحات صورا لراهب مشلوح من الكنيسة وهو في أوضاع مخلة مع إحدى السيدات، لتوزع مئات الآلاف من النسخ وتقيم الدنيا ولا تقعدها وتهيّج المسلمين على المسيحيين.
والغريب أن كثيرين يتباكون حاليا على حرية الإعلام، فإذا كانت هذه هي الحرية التي ينشدونها والإعلام الذي يريدونه، فبئس تلك الحرية وسحقا لذلك الإعلام.
المثل الشعبي يقول إن من "حضّر العفريت يصرفه"، وحسنا فعلت الدولة حينما بدأت في إغلاق هذه الدكاكين الإعلامية. لكن السؤال: هل تعي الحكومات العربية كلها الدرس، وتسمح بقيام وسائل إعلام سياسية جادة ومسؤولة، تنشر الرأي والرأي الآخر، بدلا من قصر التراخيص على ناشري الفتنة والدجل والخرافة والفجور، لتندم بعد فوات الأوان؟!