نقـد الخيـال العربـي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
حسن حنفي
كثر الحديث عن "نقد العقل العربي"، "تحديث العقل العربي"، "نقد الفكر العربي"، "نقد الفكر الديني"، "نقد العقل الإسلامي" وشيوع أحكام سيادة الخرافة والأسطورة والوهم على حياتنا الخاصة والعامة. وربما نشأ ذلك تحت تأثير الوافد الغربي، ثلاثية كانط: "نقد العقل الخالص"، و"نقد العقل العملي"، و"نقد ملكة الحكم" أو تلميذه هرمان كوهين ممثل الكانطية الجديدة "نقد الإرادة الخالصة"، و"نقد الوجدان الخالص" وغير ذلك من أمهات المؤلفات في الفلسفة النقدية.
فأين "نقد الخيال العربي"؟ والعرب أهل شعر وخيال كما وضح في "ألف ليلة وليلة" وفي الملاحم الشعبية لأبي زيد الهلالي والزناتي. وأحلام الفارس العربي امرئ القيس وعنترة تملأ الآداب والأساطير، والفتح العربي، وعبور طارق بن زياد إلى الأندلس "العدو أمامكم والبحر وراءكم"، ورغبة عبدالرحمن الداخل الأمير الأموي بعد هروبه من دمشق من الجنوب الوصول إليها من الشمال عبر المغرب العربي والجنوب الأوروبي وتحويل البحر الأبيض المتوسط إلى بحيرة عربية، وحلم عبدالناصر في تحويل البحر الأحمر إلى بحيرة عربية ظهيراً للأمن القومي العربي. والخيال الشعبي موجود في التأقلم مع أزمات الحياة والتكيف مع مصاعبها.
والأزمة العربية الحالية أزمة خيال كما هي أزمة فكر. والتوقف العربي الحالي عن إيجاد البدائل هو أزمة خيال قبل أن يكون أزمة إرادة وعجز. وماذا بعد فشل "السلام خيار استراتيجي" و"الأرض مقابل السلام"، وحل الصرع العربي/ الإسرائيلي حلا سلميّاً، وأن 99% من أوراق اللعبة في أيدي أميركا، والمبادرة العربية التي لن تبقى على الطاولة إلى ما لا نهاية. وكانت الشعارات السابقة، اللاءات الثلاث، لا صلح، ولا مفاوضة، ولا اعتراف بإسرائيل، وإزالة آثار العدوان، وما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة قد أدت إلى حرب أكتوبر 1973 بعد ست سنوات من الهزيمة من أجل تحرير الأرض المحتلة. وما زالت شعارات أخرى تـُطرح خارج الأنظمة العربية مثل الانتفاضة الفلسطينية، والمصالحة الفورية بين "فتح" و"حماس" وشتى الفصائل الفلسطينية تجميعاً لقوى الشعب الفلسطيني، والمصالحة العربية بين دول الاعتدال ودول الممانعة، خاصة بين مصر وسوريا، شقي الرحى في المواجهة.
والسؤال الآن: لماذا انعدم الخيال العربي بعد ظهور فشل المفاوضات غير المباشرة والمباشرة والاعتماد على الضغط الأميركي الخجول والأوروبي النظري، وفشله مع إسرائيل ونجاحه مع السلطة الوطنية الفلسطينية؟ لماذا تتأرجح الكرة بين السلطة الوطنية الفلسطينية ولجنة المتابعة في الجامعة العربية، كل منهما تلقي بالمسؤولية على الأخرى؟ لماذا هذه الدائرة المفرغة التي لا يمكن الخروج منها انعداماً للخيال؟ لا يعني الخيال الأمنيات والإنشائيات. ولا يعني استرجاع أحلام شهرزاد. لا يوجد خيال بلا إمكانيات وحساب للقدرات، واسترجاع لتاريخ الخيال العربي، ورغبة فعلية في المواجهة وتحرير الأرض المحتلة، ورفض الاستسلام، وفقدان الأندلس سابقة معروفة.
كانت هزيمة يونيو- 1967 هزيمة خيال. إذ سُئل موشى ديان عن كيفية هذا الانتصار الباهر والسريع على العرب. فأجاب بأنه وضع خطته في حدود الخيال العربي الذي يقسم سلاح الطيران قسمين: النصف للهجوم خارج المجال الجوي، والنصف الآخر للدفاع داخل المجال الجوي. ولما كان لدى إسرائيل أربعمائة طائرة فتخيل العرب أنها تستعمل مائتي طائرة للهجوم وأبقت مائتي طائرة أخرى داخل إسرائيل للدفاع. فلما وجد العرب أربعمائة طائرة للهجوم على الجبهات الثلاث استنبطوا تدخل الطيران الأميركي لمساعدة إسرائيل. والحقيقة أنه دفع بسلاح الطيران كله للهجوم. ولو أن طائرة عربية واحدة هاجمت إسرائيل لوجدت مجالها الجوي مفتوحاً بلا دفاع. وقد تعلم العرب في حرب أكتوبر 1973 كيفية الاعتماد على الخيال: جبهتان في وقت واحد، ضربة طيران أولى على الجبهة المصرية، اندفاع القوات السورية كالصاروخ في الجولان حتى صفد، عبور خط بارليف الذي ما كانت القنابل النووية لتدكه، مدافع المياه وتأثيرها في الطين على ما يعرفه الفلاح المصري، حائط الصواريخ.
والآن ما هو مدى الخيال العربي في الأزمة الراهنة؟ الذهاب إلى مجلس الأمن وإعلان الدولة الفلسطينية المستقلة من جانب واحد مع اعتراض الوفد الأميركي حتى لو أخذ القرار أغلبية الأصوات؟ وكيف يمكن تنفيذه على الأرض وهناك عشرات القرارات السابقة الخاصة بالقضية الفلسطينية التي لم تنفذ؟ هل المطلوب الحوار مع أميركا، التي ما زالت قدرتها على التأثير محدودة منذ بداية المفاوضات أي قبل ما يقرب من عقدين من الزمن؟ هل هو استقالة السلطة الوطنية الفلسطينية وإعلان فشلها في تحقيق الأهداف الوطنية الفلسطينية، أو التلويح بخيارات أخرى والمعنى في بطن الشاعر؟
إن شرط إعمال الخيال وإطلاقه هو التحرر من الخيار السياسي المسبق الوحيد، وتجاوز حالة العجز والاستسلام، وإعطاء الأولوية للقضية الفلسطينية على الحكم في الداخل، وعدم وضع حدود أو موانع للخيال. فقد عبر نابليون جبال الألب. وكان الفارس العربي إذا ما حل بمدينة يبني قصره على أعلى قمة فيها. ولا استبعاد للخيال العسكري. وكثيراً ما تخيل المدني بحرب صواريخ من لبنان وسوريا ومصر، والجيش الأردني يعبر النهر لطرد المستوطنين، فالأردن أقرب الجبهات إلى الأرض المحتلة في 1967 بل وفي 1948، والاستيلاء على "إيلات" من مصر، وهي قرية أم الرشراش المصرية التي كان يطالب بها عبدالناصر.
وقد يقتصر الخيال المدني على الانتفاضة الفلسطينية الثالثة ضد الاحتلال، في الضفة وغزة والقدس، وانتفاضة عرب 1948 باسم حقوق الإنسان، والفتوى بأن يكون الحج القادم نحو القدس أولى القبلتين وثالث الحرمين، ملايين من المسلمين فوق جبل المكبر حول القدس كما فعل غاندي مع ملايين الهنود المدنيين ضد الاحتلال البريطاني. ويمكن التلويح بسلاح النفط، مادة خامّاً وعوائد، وتكوين تحالف عربي إسلامي جديد، وراءه محيط إسلامي أوسع، إندونيسيا وأواسط آسيا وأفريقيا، وإعادة التعاون الاقتصادي والعسكري مع دول الاتحاد السوفييتي السابق، والعودة إلى عصر الاستقطاب في وقت يعيش المعسكر الغربي فيه أزمة مالية واقتصادية طاحنة، وتتعثر أميركا في مغامراتها العسكرية في العراق وأفغانستان وفي دول أخرى باسم الحرب ضد "القاعدة".
ليس ذلك خيال شاعر أو أماني عاجز أو حلم ولي، بل يمكن تحويله إلى خطط مدروسة مثل عبور خط بارليف، وعدم استبعاد استراتيجية الحرب كخيار آخر إذا ما فشلت استراتيجية السلام وحتى تأخذ إسرائيل وأميركا المفاوض العربي مأخذ الجد. وقد كانت المشروعات الكبرى في البداية خيالًا في أذهان أصحابها قبل أن تتحقق على أرض الواقع. والعرب باقون في التاريخ. وليست هذه أول غزوة يتعرضون لها بعد التتار والمغول شرقاً والصليبيين والاستعمار الحديث غرباً. حملوا رسالة خالدة، خاتم الرسالات، وما زالوا الأمناء عليها. تحفظ وجودهم وتحركهم وتجعلهم حريصين على مستقبلهم ومسارهم في التاريخ.