جريدة الجرائد

رؤية لما بعد انفصال جنوب السودان

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

يوسف مكي

قديماً قال العرب ldquo;إنك لا تجني من الشوك العنبrdquo; . وربما لن نبتعد كثيراً عن التوصيف الدقيق للواقع، حين نؤكد أن التطورات الأخيرة في جنوب السودان، هي نتاج تراكمات تاريخية، استمرت ما يقرب من قرن من الزمن، وأدت في نهاية المطاف إلى الإقرار بحتمية انفصال الجنوب عن المركز الأم، والذي من المتوقع أن يجري الاقتراع عليه في منتصف يناير/كانون الثاني المقبل .

والواقع أن جملة من الظروف، ذاتية وموضوعية وإقليمية ودولية، أسهمت مجتمعة في النتائج التي انتهى إليها جنوب السودان . فالسودان بتشكيلته الحالية بلد حديث، تم رسم حدوده من خارج المكان . وكان لحقب طويلة ضحية احتلالات أجنبية، وجدت من مصلحتها أن تجعل من التركيبة الفسيفسائية، عبئاً، على طبيعة ومفهوم المواطنة . فكان أن عممت كل ما من شأنه أن يخلق التمايز بين الشمال والجنوب، بما في ذلك تعزيز المواقف العنصرية، وتعميم نظرة دونية، ومزدرية للشعب القاطن في المديريات الجنوبية .

في هذا السياق، وكمقدمة لازمة، نذكر أن جنوب السودان، يشمل ثلاث مديريات هي: أعالي النيل، وعاصمتها ملكال، ومديرية بحر الغزال، وعاصمتها واو، والمديرية الاستوائية وعاصمتها جوبا . وتشمل هذه المديريات الثلاث، حدود السودان الجنوبية مع الكونغو ويوغندا وكينيا، كما تشمل معظم الحدود الجنوبية الغربية مع جمهورية إفريقيا الوسطى، وبعض حدود السودان الشرقية المتاخمة للحبشة . وتبلغ مساحتها ربع مليون ميل مربع، بما يقترب من 25% من مساحة السودان .

وتزخر هذه المديريات الثلاث بتنوع إثني وديني وثقافي، وقد ارتبطت تاريخياً بعلاقات وثيقة بالشمال، الذي يلتزم أغلبه بالدين الإسلامي، ويمثلون امتداداً جغرافياً ولغوياً لأمة العرب . وكان للدين الإسلامي واللغة العربية، الثقل الأكبر في تكوين الهوية السياسية، وللانتماء لهذا البلد الشقيق . وكان بالإمكان، في ظروف طبيعية، أن تكون اللوحة الفسيفسائية، التي يزخر بها السودان، مصدر إثراء وتخصيب لثقافة الشعب السوداني، بدلا من أن تكون عبئاً عليه، ومصدراً للمنازعات والشقاق .

لقد عملت بريطانيا، أثناء سيطرتها على مصر والسودان، في ما يتعلق بهذه المناطق، على إضعاف الوجود الشمالي، والنيل من الثقافة العربية، ومنع انتشار الإسلام فيها . وقد تم ذلك تحت ذريعة الحيلولة دون حدوث اضطرابات بين الجنوبيين والشماليين . وكان الوجه الآخر، لسياسة الفصل بين الشمال والجنوب، قد تمثل في تشجيع النعرات الإثنية، واللهجات المحلية، وتحويلها إلى لغات مكتوبة، وإحلال اللغة الانجليزية بدلا عن العربية، وفرضها كلغة للتعليم في المدارس الرسمية، وتشجيع الإرساليات التنصيرية .

صعد البريطانيون لاحقا من سياسة العزل، بين الشمال والجنوب، فشكلوا فرقة عسكرية من أبناء جنوب السودان، دعيت بrdquo;الفرقة الاستوائيةrdquo;، وبلغ الأمر حد إخراج القوات الشمالية من جنوب السودان، في ديسمبر/كانون الأول عام ،1917 وبالتزامن مع ذلك، صدر أمر بحرمان التجار الشماليين من الاتجار بالجنوب، ليتبع ذلك قرار آخر، يحرم دخول أي شخص من غير أهالي السودان والبقاء بالمناطق الجنوبية، إلا إذا حصل على رخصة بذلك . وأن من حق السكرتير الإداري أو مدير المديرية منع أي شخص من أهالي السودان من دخول تلك الجهات أو البقاء فيها .

وإثر ثورة 1919 في مصر، أصدرت لجنة ملنر التي حققت في أسباب الثورة، مذكرة تقضي بإقامة خط يفصل ldquo;الزنوجrdquo; عن الأراضي العربية يمتد من الشرق إلى الغرب ويسير مع أنهار بارو والسوباط والنيل الأبيض وبحر الجبل . وأوصت اللجنة باندماج السود ضمن أملاك إفريقية أخرى، مثل أوغندا وشرق إفريقيا . كما أوصت ببقاء جنوب السودان بعيداً عن التأثير الإسلامي .

بالتزامن مع ذلك، بدأت الإدارة البريطانية في البحث عن لغة بديلة عن العربية، لاستخدامها بالجنوب السوداني، فجمعوا بين استخدام اللهجات المحلية بعد تطويرها على نحو يجعلها لغات مقروءة، وبين اللغة الإنجليزية . ومن أجل تحقيق ذلك اقترح في عام 1929 عقد مؤتمر لغوي في مدينة ldquo;الرجافrdquo; حضره المسؤولون عن التعليم، وقد تم خلاله اختيار عدد من المجموعات اللغوية المحلية ووضع الكتب والمراجع بها . وتقرر جعل الإنجليزية لغة المكاتبات الرسمية، ولغة الأوامر العسكرية . ومنذ عام 1931 تحولت لهجات الجنوب إلى لغات مكتوبة، فوضعت أسس قواعد لغات الباري واللاتوكو والشلك والدنكا والنوير .

بعد إعلان الاستقلال بفترة وجيزة، بدأت مشكلة الجنوب تعود إلى الواجهة من جديد، وبلغت الشكوك ذروتها بين الجانبين، عندما قامت الحكومة المركزية عام 1955 بإعادة تنظيم القوات العسكرية وتقرر نقل بعض مجموعات الفرقة الاستوائية إلى الشمال، الأمر الذي أدى إلى تمرد أفراد الفرقة، وتمكنها من السيطرة على المديرية الاستوائية بأكملها، باستثناء العاصمة جوبا . ومن ذلك الحين، تفجرت المشكلة بالجنوب واتخذت مساراً دموياً عنيفاً . وكان ذلك حصاد حقب طويلة من سياسة بريطانية، ممنهجة باتجاه تفتيت وحدة الأراضي السودانية .

جرت محاولات عدة لتحقيق السلام في السودان . وفي المقدمة من تلك المحاولات الاتفاق الذي تم بين الحكومة السودانية وحركة تحرير جنوب السودان في شهر فبراير/شباط 1972 بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا وبرعاية الإمبراطور هيلاسلاسي . وقد قضى الاتفاق بقيام حكم ذاتي بالجنوب في إطار السودان الموحد، واستمر العمل بالاتفاق لمدة عشر سنوات . لكنه انهار في مطالع الثمانينيات من القرن المنصرم . وأطيح بمرحلة سلام في الجنوب لم تتجاوز عقداً من الزمن . وقد تبع ذلك اتفاق آخر، في عهد الرئيس الحالي البشير، لكن هذا الاتفاق، فشل هو الآخر، لأسباب داخلية وخارجية، يطول شرحها .

من وجهة نظر المتمردين الجنوبيين، فإن المشكلة تكمن في تأكيد الدستور السوداني، على الإسلام، باعتباره مصدر التشريع، وذلك يلغي حقوق المواطنين الذين لا يدينون بالإسلام . إن ذلك يعني أن حكومة السودان لا تقر بكينونة الشعب في الجنوب، ولا تسلم بوجود ثقافات أخرى غير الثقافة العربية .

والواقع أن الأحزاب والفعاليات السياسية التي تعاقبت على حكم السودان، لم تعمل على إيجاد حلول للمشكلة، مما أدى إلى تراكم تبعاتها . وكان هذا الفشل، نتاج عثرات أشمل وأعمق، عمت السودان بأسره . وقد عبرت حالة العجز عن نفسها بالانقلابات العسكرية المتتالية، التي يعقبها في العادة عودة قصيرة للنظام الديمقراطي، في دورات لا تنتهي من العجز والتخبط .

لقد ترك العجز بصماته واضحة على الأوضاع السياسية والاقتصادية لهذا البلد الغني بثرواته وموارده وتراثه . وكانت قضايا التنمية بكل تفرعاتها، وضمان الحريات الفردية، والعدالة الاجتماعية، هي ضحايا حالة عجز وتخبط الحكومات السودانية المتعاقبة . وكانت وحدة الوطن هي الضحية الأكبر .

ذلك لا يعني أننا لا نحمل القوى الخارجية مسؤولية ما جرى ويجري حاليا في السودان الشقيق . فذلك أمر واقع لا جدال حوله، ولكن هشاشة البنية المجتمعية، وضعف مقاومة هياكل الدولة، هو الذي يمكن القوى الخارجية من تحقيق الاختراق .

لقد أصبح الانفصال، كما تشير جل المعطيات، أمراً واقعاً، لا مناص من التعامل معه، والمطلوب هو التوجه نحو المستقبل، والعمل على بناء سودان جديد، قوي ومتين، قادر على التعامل مع المتغيرات السريعة التي تفتعل فيه، وتجري من حوله . ولعل الدرس الأهم في هذا السياق، هو أن يستند البناء الجديد، إلى علاقات تعاقدية، تعتبر المواطنة هي الأساس، وتكون عابرة للفئوية الضيقة، وسياسات الإقصاء، وتعتمد توزيع الثروة بندية وتكافؤ بين مختلف مناطق البلاد، دونما أدنى اعتبار للدين أو اللون أو الجنس . ويبقى السؤال حاضراً للمناقشة: ماذا بعد انفصال الجنوب؟ ذلك ما نعد بمناقشته في الحديث القادم .


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف