مؤتمرات المثقفين... وملء الفراغ!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
حسن حنفي
كثر عقد مؤتمرات المثقفين هذه الأيام في القاهرة والإسكندرية في مؤسسات الدولة وفي كنفها وتحت رعايتها وبمبادرة منها. ويسرع المثقفون بالقبول دون قيد أو شرط. فهم يريدون أن يكونوا في الصورة بدلًا من إحساسهم بالتهميش وعدم التأثير. يريد المثقف أن يقوم بدور، وأن يشعر بأنه مطالب بالحضور، وبأن له مكاناً على الساحة. والمؤتمر قد يكون تحت رعاية وزير أو مدير أو مسؤول كبير. والمدعوون نجوم الثقافة وزهورها، مفكروها وأدباؤها، والحاصلون على جوائز الدولة على كافة مستوياتها، بل والجوائز الإقليمية في شرق الوطن العربي وفي غربه حيث تتركز الثروة.
والنظم السياسية سعيدة بهذه التظاهرات الثقافية. والساحة هي الأماكن المغلقة في المباني الفاخرة والقاعات ذات المقاعد الوثيرة، في الداخل وليس في الخارج، في الشوارع والميادين العامة وحول مؤسسات الدولة البرلمانية أو القضائية أو السياسية. والميدان الكلام دون الفعل وهي بضاعة المثقف، صياغة الخطاب، وحسن القول، وبلاغة التعبير. وعلى هذا النحو، تتحول عن بعض النظم المعارك السياسية إلى معارك ثقافية، ويؤمن تظاهر الجمهور بالآلاف في الأماكن المفتوحة. وتطمئن إلى اجتماعات المثقفين بالمئات في الأماكن المغلقة.
وقد يوضع العالم كله، من الألف إلى الياء، بين يدي المثقفين للتخطيط له، وإعادة تنظيمه تعويضاً لهم عن هامشيتهم وقلة فاعليتهم. ولا ضير من نقد الأوضاع الثقافية أو حتى نقد الأوضاع السياسية. فالثقافة سياسة، والسياسة ثقافة على عكس الدين. ولما كان المثقفون بالطبيعة أهل معارضة فتكسب الدولة أنها تحاور المعارضة وتستمع إليها، وتترك لها حرية القول. فتكسب بذلك الشرعية، وتمارس أحد أشكال الديمقراطية التي طالما نقد المثقفون غيابها.
ولما كان معظم المثقفين من اليسار فها هم يربطون بين الثقافة والسياسة، ويمارسون الحرية والنضال الثقافي والسياسي. ويعلون أصواتهم أمام أجهزة الإعلام الرسمية والقنوات الخاصة دليلًا على حرية الرأي وتكذيباً لما قد يقال عن بعض النظم. والدولة تستمع إلى نقدها بصدر رحب، ولا وجود للأجهزة الرسمية حول أمكنة انعقاد هذه التجمعات أو على المقاعد بين أوساط المثقفين، كتاباً ناشئين أو أدباء مغمورين. حتى لو أعلن المثقفون في بيانهم الختامي مقاطعة المؤسسات الثقافية أو العصيان الثقافي فإن الدولة تقبل كل شيء بسماحة ورحابة صدر. والصراع بين المثقفين والمؤسسات الثقافية خير من الصراع بين الجمهور وأجهزة الدولة.
الثقافة هنا تصبح بمثابة رقيب من نوع رفيع، تسيطر عليها الدولة كما تسيطر الوزارات على الأجهزة الرسمية. وقد تـُغلق قنوات الفضاء بحجة الدفاع عن الوحدة الوطنية والآداب العامة ربما كسابقة لغلق القنوات السياسية وإعلام المعارضة حتى تتكيف مع ميثاق الشرف الإعلامي، بدلاً من اللجوء إلى ساحة القضاء الذي يحكم بين الدولة والشعب، بين نظام الحكم والمعارضة. وبالتالي يتعلم الجميع أن بين الحاكم والمحكوم هناك القضاء الذي يفصل بينهما في حالة التعارض والخصام.
وقد عُرف عن المثقفين تنافسهم في الكلام، فتلك بضاعتهم. والمباراة اللفظية أمام المسؤولين. فكل مثقف لديه الحل حتى وإن لم يقدم تشخيصاً للمشكلة. ليس فقط "الإسلام هو الحل" بل ما يقدمه المثقف هو الحل. ولما عُرف المثقف بالفردية وبالبطولة الخطابية تضاربت الآراء "من هنا نبدأ" أو "إلى هنا ننتهي". كل مثقف منقذ للعالم الذي بدونه ينتهي إلى الهاوية. لديه الحقيقة المطلقة، وهو الداعي إلى نسبيتها ضد الأطراف الأخرى المتطرفة التي قد تدعي امتلاك الحقيقة المطلقة. لا فرق بينه وبين الدولة في خطابها، التي قد تدعي هي أيضاً امتلاك الحقيقة. ولا أحد يبحث عنها!
قد تهدف مؤتمرات المثقفين التي تتبارى المؤسسات في الدعوة لها وعقد اجتماعاتها التمهيدية إلى توظيف المثقفين لتجميل الصورة العامة في الخارج، والتنفيس عن الاحتقان المكبوت في الداخل. تريد اتقاء شرهم حتى لا يتحولوا إلى معارضة فعالة خارج النظام واستئناسهم داخله. فليتجمع المثقفون ويتكلموا كما تفعل أحزاب المعارضة ويصرخوا. فكلاهما في النهاية يمثلان الأقلية. ومهما تكلمت أو صرخت فإنها غير مؤثرة. فالسلطة هي الحل. والأغلبية صامتة لا يهمها الأمر. فقد سئمت لعبة السياسة، وأكاذيب بعض السياسيين.
الثقافة هي الخبز. والمثقفون هم الذين يقفون في طوابير الخبز. وهو ما يصوره الأدباء في رواياتهم وقصصهم وأشعارهم ومسرحياتهم. هي الضيق من ارتفاع الأسعار وانخفاض الأجور. هي ثقافة رجل الشارع الذي يتساءل أين الدولة وأين المسؤولون، وأين حُماته ومن يدافعون عنه؟ وما من مجيب. فليلجأ إلى الدين يشكو همه، ويفرج كربه. وقد تتلقفه الجماعات الأصولية. الثقافة هي التي تلبي حاجات الناس اليومية وهي التي تغير مسار التاريخ.
الثقافة هي الثقافة الوطنية، هي الثقافة السياسية. هي الثقافة التي تحمل هموم الأمة السبعة: أولًا، ثقافة تحرير الأرض ضد الاحتلال في فلسطين والعراق. فالاحتلال واحد، والأرض واحدة، والنضال واحد، تعبيراً عن الوحدانية. ثانيّاً، ثقافة تحرير الإنسان من القهر والتسلط والخوف، وقيم الرضا والصبر والقناعة لتمثل قيم الاعتراض والنفي. فالشهادتان أول ركن في الإسلام إعلان عن هذا الرفض بالشهادة القولية في "أشهد" وفي نفي الآلهة المزيفة للعصر، كالشهرة والمال، في "لا إله" من أجل إثبات الإله الواحد الحق الذي يتساوى أمامه الجميع في "إلا الله". ثالثاً، ثقافة العدالة الاجتماعية. فأغنى أغنياء العالم منا، وأفقر فقراء العالم فينا. رابعاً، ثقافة وحدة الأوطان ضد مخاطر التجزئة العرقية والتفتيت الطائفي في وقت توحد إسرائيل فيه شعب اليهود من الشرق والغرب والشمال والجنوب داخل الدولة اليهودية القومية. خامساً، ثقافة التنمية المستقلة بدلًا من الاعتماد على الغير في الغذاء والكساء والحماية. والموارد والسواعد والعقول متوافرة. ومن لا يأكل مما تنتجه يداه يظل تابعاً ومحتلاً. سادساً، ثقافة الهوية والتمسك بالذات دون الاغتراب في الغير والذوبان فيه، وتقليده واعتباره النموذج الأوحد في التقدم والحضارة والمدنية. سابعاً، ثقافة الجماهير التي تلتف حولها وتجد فيها ما يعبر عن مآسيها وأفراحها كما كان مفكرو الثورة الفرنسية يعبرون عن رغبة الشعوب في الحرية والاستقلال.
فهل تستطيع مؤتمرات المثقفين إعداد خطة لتحقيق هذه الأهداف السبعة؟ وهل يتم ذلك بمبادرة من النظام السياسي، والمثقفون جزء منه أم بمبادرة من المثقفين؟