«ويكيليكس غيت»
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
نورالدين قلالة
عالمنا مليء بالفضائح من كل الأنواع والأشكال وبمختلف الأحجام والتأثيرات، منها فضائح جنسية مثل فضيحة الرئيس الأميركي بيل كلينتون ومونيكا لوينسكي التي تدربت في البيت الأبيض على أمور لا تصلح للنشر، ورياضية كالذي حدث في كأس العالم 1982 بإسبانيا عندما اتفق الألمان والنمساويون على إخراج الجزائر من الدور الأول، وأمنيّة وقد يكون آخرها تورط جهاز الموساد في عملية اغتيال القيادي الحمساوي محمود المبحوح في دبي. هناك طبعا فضائح فنية وأدبية وثقافية.. لكن الفضائح السياسية تبقى الأكثر تأثيرا في حياة الشعوب بحكم التغيرات التي تحدثها على مستوى الدولة والنسق السياسي للنظام العام.. ولعل أشهرها ما اتفق على تسميته بـ "إيران غيت"، وهي صفقة الأسلحة الإيرانية الإسرائيلية التي عقدت بموجبها إدارة الرئيس الأميركي ريغان اتفاقا مع إيران لتزويدها بالأسلحة أثناء حربها مع العراق، وذلك لقاء إطلاق سراح بعض الأميركان الذين كانوا محتجزين في لبنان. والثانية فضيحة "ووتر غيت" التي كان بطلها الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون الذي قرر التجسس على مكاتب الحزب الديمقراطي المنافس، مما أدى إلى أزمة كبيرة استقال على إثرها.
واليوم نحن أمام فضيحة لا تقل أهمية ولا تأثيرا عن "إيران غيت" أو "ووتر غيت"، وهي فضيحة الوثائق السرية التي كشفها موقع "ويكيليكس" عن الحرب في العراق. وهذه ليست المرة الأولى التي تقف فيها "جهات إعلامية" وراء الكشف عن فضائح سياسية على وجه الخصوص، وهو ما حدث مع صحيفة "واشنطن بوست" التي كشفت فضيحة "ووتر غيت" عن طريق الصحافي والكاتب الشهير بوب وودورد، وكذا مجلة "الشراع" اللبنانية التي كانت وراء الكشف عن ملابسات وتفاصيل فضيحة "إيران غيت".
موقع "ويكيليكس" بغض النظر عن الجهات التي تدعمه أو تفتح خزائنها لتمويله، وبغض النظر عن الأهداف التي تقف وراء الكشف عن مثل هذه الوثائق الخطيرة واختيار الوقت المناسب لنشرها.. سواء تعلق الأمر بالمستقبل السياسي لرئيس الوزراء العراقي الذي أصبح في خبر كان بعد هذه العاصفة، وسواء تعلق الأمر بالانتخابات في الولايات المتحدة والوضع الحساس جدا الذي يعيشه الرئيس باراك أوباما والمعسكر الديمقراطي ككل.
بغض النظر عن كل الظروف الملابسة لنشر هذه الوثائق فإن "ويكيليكس" يمثل نفسه بالدرجة الأولى موقعا مثيرا للجدل، تحوم حوله شكوك عديدة، يقوم على قاعدة واضحة أن "أفضل طريقة لوقف الانتهاكات هو كشفها وتسليط الضوء عليها"، ويعرف نفسه بأنه موقع للخدمة العامة مهمته الأولى تقوم على "التسريبات" مهما كان نوعها، وهو مخصص لـ "حماية الأشخاص الذين يكشفون الفضائح والأسرار التي تنال من المؤسسات أو الحكومات الفاسدة، وتكشف كل الانتهاكات التي تمس حقوق الإنسان أينما وكيفما كانت".
وعلى هذا الأساس فإن الدعوات التي تطالب بضرورة التحقيق في وثائقه دعوات مشروعة، لأن القائمين على الموقع أنفسهم لا يمانعون من استخدام معلوماته للبحث والتقصي للوصول إلى الحقيقة وتحويل المسألة إلى قضية ينظر فيها القضاء. لكن هذا لا يعني على الإطلاق غض الطرف عن الفظائع والجرائم التي كشفها وضرورة محاكمة مرتكبيها والمتسببين في حدوثها والمشاركين في أحداثها من قريب أو من بعيد.
ليس كل ما يصدر عن "ويكيليكس" حقيقياً ونظيفاً وموثوقاً فيه، الموقع نفسه قد يتم استغفاله لحاجة ما، كما أن "ضحاياه" من السياسيين والحكام والمسؤولين -إذا صحت تسميتهم هكذا- من حقهم الدفاع عن أنفسهم والطعن في الوثائق المنسوبة إليهم، مهما كانت درجة إدانتهم، فقد يكون الأمر صحيحا بالنسبة للمالكي بحكم الوضع الخاص الذي يعيشه العراق، لكن ماذا لو أن الموقع شن قصفا مركّزا ذات يوم بسلسلة من الوثائق السرية الخطيرة عن الرئيس السوري بشار الأسد مثلا، أو الإيراني أحمدي نجاد، أو السوداني عمر البشير، أو الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة، أو اليمني علي صالح، أو المصري حسني مبارك.. أو غيرهم من الزعماء والحكام العرب، أو حتى شخصيات أمثال حسن نصر الله وعمرو موسى ومحمد حسنين هيكل.. كيف سيكون الموقف؟ هل سنتعامل مع المادة المسربة بنفس الحدة وبنفس الحماس؟ بل إن شخصية مثل شخصية محمد حسنين هيكل مثلا -مع احترامي له ولتاريخه السياسي والفكري- تحوم حولها علامات استفهام، خاصة ما يتعلق بالكم الكبير من الوثائق التي يحوز عليها.. إذ لم يحاول أحد مجرد مناقشتها وطرح أسئلة عن مصدرها، ومدى صحتها، وكيف وصلت إليه وثائق رسمية تتعلق بشخصيات سياسية وقادة عرب وغير عرب.. من الذي يزوده بها؟ ما هدفه..؟؟؟ وفي تقديري أن بث قناة "الجزيرة" لحلقات خاصة بهيكل يفتح الأبواب -إلى حد ما- لمحاولة التدقيق في صحة ما يقول إذا ما قررت بعض الجهات الطعن في وثائقه.
مشكلتنا أننا نصدق ما نريد أن نصدقه ونكذب ما نريد أن نكذبه، كما أننا مولعون ومنبهرون بالمؤسسات الغربية على شاكلة "ويكيليكس"، وعلى غرار بعض مراكز الدراسات الدولية التي تعمل في الكثير من الأحيان لفائدة جهات ودول لها مصالح معينة في التشهير بشخص ما أو الترويج له، ولها أهداف خفية في كشف أسرار نظم سياسية ترى أنها لم تعد في حاجة إليها، وأنا متأكد من أن الوثائق التي نشرها "ويكيليكس" لو أن الجامعة العربية مثلا أو أي هيئة أو منظمة عربية أو إسلامية أخرى كانت وراء الكشف عنها، لما صدقها أحد ولما ثارت حولها كل هذه الضجة.
أليس من حقنا أن نتساءل عن درجة الاهتمام بوثائق القتلى والمغدور بهم في العراق من طرف مجرمي حرب وقادة ميليشيات، وعن درجة الاهتمام بوثائق أخرى لنفس الموقع عن الأعداد الحقيقية للمصابين بمرض الملاريا الذي يقتل في إفريقيا مائة شخص كل ساعة.. هل تتصورون؟ كل ساعة؟! ومع ذلك لم تهتز المنظمات المعنية بحقوق الإنسان ولم تتحرك واشنطن ولا الأمم المتحدة.. لأن الأمر قد لا يعنيهم.
يجب أن نتساءل حول صحة أي رواية من الروايات، يجب أن نشك شكا منهجيا وليس مرضيا كما يقول الغزالي حتى نستطيع أن نصل إلى الحقيقة وندرك اليقين.
وأعتقد أن النتيجة رقم واحد التي خلفتها وثائق "ويكيليكس" السرية عن العراق، هي أن نوري المالكي انتهى سياسيا، وبات مستقبله في خبر كان، ومن المستحيل القبول به رئيسا لحكومة العراق، وقد أضيفت إلى سجله الدموي تهم جديدة أخطر وألعن.. والمهم (المهم جدا) أن هذه التهم صادرة من مؤسسة غربية. وكرد فعل غاضب ومدرك لخطورة الأمر، قرر المالكي إعدام طارق عزيز.. فمن المستفيد من الوثائق؟ وهل سيقف غضب المالكي عند هذا الحد؟