لبنان يعود مركزاً لاهتمام واشنطن خشية تحويله الى "ورقة" إيرانية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
الانقلاب على "الانقلاب" ممنوع
أسعد حيدر
"موقف واحد بلغتين مختلفتين". هذا ما تردّده باريس عن "التطابق" مع واشنطن في سياساتهما حول كل ما يتعلق بلبنان. بالمبدأ هذا الكلام صحيح. بالفعل غير دقيق. الفرق باللغة يُترجَم بالتباعد في النبرة والتطبيق والتنفيذ والملاحقة. دمشق هي نقطة القطع والوصل في كل هذا.
في الأساس، باريس وواشنطن، تريدان وتعملان على "رعاية أمن واستقرار لبنان". هذا الموقف الواحد ترجمته "رسالة واحدة يجب على الجميع بمن فيهم دمشق ألا يعتقدوا ان الساحة تغيّرت وأنّ ساعة الانقلاب على "الانقلاب" قد دقّت. لا يمكن إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل 14 آذار. ما حصل قد حصل. التفاهمات الجديدة يجب أن تأخذ بالاعتبار كل ذلك".
باريس تتعامل مع دمشق من موقع "الحاجة". واشنطن تعرف "أهمية" دمشق، لكن تتعامل معها أيضاً بأنه لا يمكن الدخول في مواجهة متواصلة معها. لكل شيء حدود. ولكل مرحلة أثمانها. باريس تأخذ في الاعتبار في حركتها السياسية في لبنان وحوله، رغم "قوّة العواطف والعلاقات التاريخية، واقع الأرض". لا يمكن لباريس أن تتغافل عن وجود جنودها في قوات "اليونيفيل" في جنوب لبنان والأخطار التي يمكن أن تحدق بهم باسم "القاعدة" و"أخواتها". أيضاً وهو الأهم حالياً، تعيش باريس على وقع هواجس "التهديدات الإرهابية" ضدّها. دمشق مؤثرة وفاعلة في "الملفين"، لديها "القدرة" على المساهمة بفاعلية، وقد أثبتت ذلك لفرنسا خصوصاً بما يتعلق بالتعاون على صعيد الأمن الداخلي الفرنسي. دمشق ساهمت وباريس لا تنفي في كشف شبكات إرهابية مغاربية ضدّها.
برنار كوشنير جاء إلى لبنان ليودّعه، وهو "الطبيب" الذي "أحبّه ولم يستطع أن يقدم له كوزير ما أراده له". لذلك لم تكن "رسالته" للبنان أكثر من رسالة محبّة واهتمام قبل مغادرته للوزارة في التعديل الوزاري المرتقب خلال الأيام القليلة المقبلة. "عين كوشنير كانت بصيرة لكن يده قصيرة" السياسة الخارجية الفرنسية يرسمها رئيس الجمهورية نيكولا ساركوزي حسب الدستور. الخلافات بينهما كانت عديدة وكبيرة، لذلك انتهت مرحلة كوشنير في الخارجية. المفترض أن يأتي وزير يتطابق أكثر مع سياسة الرئيس وتعليماته مثل وزيرة الدفاع أو وزير الداخلية الحاليين وربما أحد رجال الرئيس المباشرين مثل كلود غيان أو غيره.
تطورات الأشهر الثلاثة الأخيرة في لبنان أقلقت باريس وواشنطن بنسب متفاوتة. لا شك أنّ زيارة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد إلى لبنان في الشهر الماضي، كانت "النقطة التي فاض بها كأس الصبر". لا تعليق على الزيارة الرسمية، هذا حق من حقوق الدولة اللبنانية. بروتوكولياً كانت الزيارة سليمة. المشكلة في "المظاهرة" التي نظمها "حزب الله" في الجنوب وفي ضاحية بيروت. بوضوح أكثر، زيارة نجاد إلى لبنان أثارت مخاوف حقيقية لدى واشنطن وباريس معاً من ضم لبنان إلى "محور" لا تريده العاصمتان وخصوصاً واشنطن. أي محاولة لإخراج لبنان من موقعه الطبيعي كدولة معتدلة والعمل على ضمّه تحت أي صيغة من الصيغ الى محور سواء كان اسمه الممانعة أو المواجهة أو غير ذلك يخل كثيراً بالوضع وبموازين القوى في المنطقة. لذلك لم يكن أمام واشنطن وباريس إلا ان تدقا "الجرس" للجميع وفي مقدمهم دمشق.
السؤال لماذا التركيز على دمشق إذا كانت إيران هي الدولة المعنية بكل ما حصل؟
مصادر متقاطعة في باريس ترى، أن دمشق استعادت دوراً وموقعاً في لبنان منذ "اتفاق الدوحة". وأن هذا كله جرى بدعم فرنسي وبموافقة أميركية ضمنية، لذلك فإن مسؤولية دمشق في التطورات الأخيرة مباشرة. التطورات الأخيرة بما فيها الزيارة "النجادية"، أشارت الى "انحراف أو انزلاق شديد الحدة نحو تحويل لبنان كله الى "ورقة" في الاستراتيجية الإيرانية، إطلالة أحمدي نجاد وخطابه في بنت جبيل أشّرت الى أن إيران تكاد تصبح قوة حدودية في الصراع العربي الإسرائيلي وهذا مرفوض مئة بالمئة.
أبعد من ذلك، ينقل عن الأميركيين المتوافدين الى باريس، "أن واشنطن عندما منحت دمشق وكالة حصرية وغير قابلة للعزل على لبنان عام 1975 1976 كان من ضمن بنودها ابعاد منظمة التحرير الفلسطينية عن لبنان. وقد التزمت دمشق بذلك، علماً انه كان لديها مصلحة فيه نتيجة لنزاعها مع الرئيس الراحل ياسر عرفات. حالياً لم تُمنح دمشق "الوكالة الحصرية"، رغم ذلك فإنها ساهمت أو سمحت أو على الأقل اغمضت عينيها عن دخول إيران "قوة حدودية" الى لبنان، وإذا كانت واشنطن قد عملت من قبل على ابعاد منظمة التحرير عن الحدود اللبنانية الإسرائيلية فهل يمكن ان تقبل او تتحمل أو تغض الطرف عن إيران وهي التي في مواجهة مباشرة معها؟. لا يعني هذا كله ان باريس وواشنطن ما زالتا تطالبان دمشق "بالطلاق" مع طهران: العاصمتان تعرفان ان هذا الطلب غير واقعي وغير منتج. المطلوب من دمشق ضبط العلاقة مع طهران بالاخذ بعين الاعتبار بالوقائع الميدانية.
كل هذا إلى جانب العمل على اضعاف حكومة الوحدة الوطنية التي يرأسها سعد الحريري عن طريق "ركوب الموجة الإيرانية من جهة والسباق المحموم ضد المحكمة الدولية الذي لن يغير شيئاً، لأنه لا يمكن إفراغ الطائرة من حمولتها وهي في الجو، غيّر من المواقف. باريس مهتمة بلبنان وتريد حصوله على الأمن والاستقرار، لكن لديها مصالح مباشرة مع دمشق لذلك لا يمكن لها إلا استخدام "لغة تطويقية ايجابية معها".
واشنطن تذهب أبعد من ذلك، لأن "الملفات" متعددة مع دمشق. حالياً لا يمكن أن يكون لدمشق وطهران معاً أو منفصلتين مواقف ايجابية من نقاط ساخنة على طول "قوس الأزمات" ومواقف سلبية من نقاط أخرى. لا يمكن ان تطالب بالسلام وتدعو الى اطلاق عربته وفي الوقت نفسه تنفذ سياسة معرقلة في نقطة حساسة مثل لبنان. لذلك كله عاد لبنان مركزاً لاهتمام السياسة الأميركية، بعد أن كان قد تحول باتجاه دمشق خصوصاً بعد "الهجمة الانفتاحية" لساركوزي.
لا باريس تقبل ولا واشنطن مستعدة لفتح مواجهة شاملة أو محدودة مع دمشق حول لبنان لكن من الواضح أن لبنان عام 2010 هو غير لبنان عام 1975 وما بعده وزمن "الوكالات الحصرية" انتهى.
القرار الأساسي هو رعاية أمن واستقرار لبنان وابعاده عن نار "العرقنة"، لأن منطقة الشرق الأوسط كلها ليست أكثر من برميل بارود لا يحتاج أكثر من نار "كوكتيل" "اللبننة" و"العرقنة" معاً حتى ينفجر وتتغير كل الخرائط، لانه كوكتيل خارق وحارق.