جريدة الجرائد

كل شيء في الكون يطوف كطواف الحجاج حول الكعبة

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

عمرو أبوالفضل

الحج من أركان الإسلام، وفريضة من أقدس فرائضه، وشعيرة عظيمة من شعائره الكبرى، تجتمع فيه كل شعائر العبادات، ففيه شهد الناس بالوحدانية لله سبحانه وتعالى، ويقولون "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك" ومناسكه وأعماله كلها أسرار إلهية وحكم عظيمة، ومصالح عديدة، لا يعرفها الكثيرون، هدفها تحقيق العبودية لله عز وجل والامتثال لأوامره واجتناب نواهيه.

يقول الدكتور حسين شحاتة ـ الأستاذ بجامعة الأزهر ـ إن شعيرة الحج من العبادات المليئة بالحكم البالغة والأسرار الإلهية التي تؤكد الإعجاز الإسلامي وقدرته على أن يجعل للعبادات وجهاً مادياً اقتصادياً، وللنشاط الاقتصادي وجهاً تعبدياً روحانياً، فلا فصل بين الروحانيات والماديات، ولا بين العبادات والمعاملات، وأصل ذلك قول الله تبارك وتعالى: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين" البقرة 189، فهذه الآيات الكريمة تأكيد قوي أن الإسلام ليس فقط دين عبادات وطقوس لتهذيب الضمير وتطهير الوجدان فقط، بل أيضاً دين معاملات ومنهج شامل للحياة.

امتثال لأمر الله

ويوضح أن الحج ومناسكه وأعماله كلها أسرار إلهية ومنافع روحية عظيمة، حيث يستشعر الناس وحدانية الله سبحانه وتعالى من خلال وحدة المناسك والمشاعر والقصد والسعي والقول والدعاء، فالجميع مسلمون يطوفون ببيت واحد، ويعبدون إلهاً واحداً، ويتبعون رسولاً واحداً، وينتهجون منهجاً واحداً.

وأضاف أن الحجاج يؤدون المناسك مثل الطواف والوقوف بعرفه والسعي، والحلق والتقصير، والهدي وغير ذلك من النسك بلا نقاش أو جدال، بل هو طاعة وامتثال واستسلام لأمر الله سبحانه وتعالى، وفى هذا تعويد للنفس البشرية على الالتقاء على طاعة الله والاتحاد على دعوته، ولقد وعد الله سبحانه وتعالى أصحاب هذه النفوس المطيعة والمستسلمة له بالجنة، فقد ورد عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قوله: "الحجاج والعمار وفد الله عز وجل وزواره إن سألوه أعطاهم وإن استغفروه غفر لهم وإن دعوا استجيب لهم وإن شفعوا شفعوا".

وقال إن من أهم أسرار ومنافع الحج الروحية التزود بالتقوى، ولقد بين الله سبحانه وتعالى ذلك بقوله: "ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب" الحج 32، مضيفاً أنه ورد في تفسير هذه الآيات أن من أهم مقاصد أداء مناسك الحج هو استشعار التقوى والتزود منها، كما أن في الحج اختباراً لقوة الإيمان، حيث يترك الناس اللذائذ وينسون رغبات الدنيا ويتجنبون الشهوات، ففي ذلك اختبار لقوة الإيمان وصدق العقيدة والإخلاص في حب الله ورسوله، فالحجاج أثناء أداء المناسك يؤمنون بأن اتقاء الله والعمل على الفوز برضائه وغفرانه خير من تلك الشهوات الزائلة ويتذكرون قول الله تبارك وتعالى: "والذين امنوا أشد حباً لله" البقرة 165.

من مظاهر العظمة

ويقول د. حسين شحاتة إن الإحرام في حقيقته تطهير للنفس البشرية من مظاهر العظمة، موضحاً أن الحجاج يلبسون ملابس بسيطة، ويستبدل الغني الفاخر الثمين من الثياب ثوبين لا زينة ولا زخرفة فيهما، كما يقف أمام الله سبحانه وتعالى متجرداً من كل مظاهر الحياة الدنيا الزائلة يتذكر يوم لقاء الله، وهذا يطهر النفس البشرية من الغرور والتفاخر بالأنساب والألقاب، كما يعود النفس التواضع حتى لا يبغى أحد على أحد.

ويضيف أن الحج تعويد للنفس على الجهاد وتنمية استعدادها للسير في طريق الخير، والله سبحانه وتعالى خلق في النفس البشرية نوازع الخير والشر، والحج من وسائل تزكية النفس، فالحجاج يضحون بالمال مع حبه، ويتجنبون الشهوات ويركبون الصعاب ويعانون المتاعب في سبيل أداء تلك الفريضة ليفوزوا برضا الله، فهذا يعتبر نوعاً من جهاد النفس وأكد ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد روى البخاري عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "يا رسول الله نرى الجهاد أفضل الأعمال أفلا نجاهد؟، فقال - صلى الله عليه وسلم: "لكن أفضل الجهاد حج مبرور".

سنة كونية

ويؤكد الدكتور أحمد فؤاد باشا - عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - أن الطواف حول الكعبة المشرفة شعيرة تعبدية جعلها الله جل وعلا من أهم مميزات الإسلام، فهو شهادة على النفس بالتجرد وبالتزام الطاعة والامتثال، وقال إن العلم الحديث أدرك حكمته، وثبت أنه سنة كونية ويرمز إلى سر عظيم من أسرار الكون يقوم على شهادة التوحيد الخالص لله تلبية للنداء الإلهي الذي أمر إبراهيم الخليل - عليه السلام - أن يؤذن في الناس بالحج، مصداقاً لقوله تعالى: "وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق" الحج 26-27.

ويوضح أن الحقائق العلمية أثبتت أن الكون الفسيح تعتمد الحركة فيه على الدوران الذي هو أشبه بالطواف حول مركز معين. فالأرض تدور في فلك خاص بها حول الشمس مرة كل عام، والقمر يدور في فلك خاص به حول الأرض مرة كل شهر عربي، كما أن الكواكب الأخرى تدور في أفلاك خاصة بها حول الشمس، ومعظم هذه الكواكب لها أقمار تدور حولها، والمجموعة الشمسية التي ينتمي إليها كوكب الأرض تدور حول مركز مجرة "الطريق اللبني" أو "درب التبانة"، وهي تحتوي على نحو 130 بليون نجم. ومجموعة المجرات الكونية تدور جميعها حول مركز لا يعلمه إلا الله وحده وكأننا بهذا التصور العلمي لهيئة الكون نلفت الأنظار إلى الحركة الدورانية، أو الطواف، كسنة كونية تتجلى في الخلق كله.

مركز الجاذبية الروحية

ويضيف أن الطواف أيضاً موجود في عالم المتناهيات في الصغر، فالذرة التي لم يرها أحد بعد بالعين المجردة ولا بأقوى الميكروسكوبات، تتكون من نواة لا يزيد قطرها على جزء واحد من مليون جزء من الملليمتر، ويدور حولها إلكترون أو أكثر في مدارات، أو أفلاك خاصة، وهذا يعني أن جميع ذرات المواد الصلبة، والسائلة، والغازية في هذا الكون تعمل فيها ظاهرة الطواف، ويدخل في ذلك جميع الذرات التي تؤلف أجسامنا، وطعامنا، وشرابنا، والهواء الذي نستنشقه، وكل كائن حي من نبات أو حيوان، وكل شيء مادي على الأرض من بحار، ورمال، وجبال، أو في السماء من نجوم، وكواكب، وأقمار، أو بين السماوات من غازات، ونيازك، وشهب، ومذنبات، وغيرها، وأهم ما يجمع بين أنواع هذه الحركة في جميع حالاتها هو الدوران، أو الطواف، في عكس اتجاه عقرب الساعة.

ويقول إن الكعبة المشرفة هي مركز الجاذبية الروحية التي ينبغي أن تكون بين العبد المؤمن وبيت الله العتيق، والبيت الذي يستقبله المسلمون ويتجهون إليه في صلاتهم خمس مرات على الأقل كل يوم، وهم بعيدون عنه هو مركز الأرض، وهذه الجاذبية الروحية هي القوة الخفية التي تجعل كل قادم يطوف حول الكعبة بمجرد الوصول إليها، تماماً مثلما يطوف أي جرم سماوي بمجرد وقوعه في أسر جاذبية جرم آخر أكبر منه.

وأضاف أن المسلمين يطوفون حول الكعبة المشرفة في عكس اتجاه حركة عقرب الساعة، حيث يكون القلب أقرب إلى مركز الجذب والطواف. كما أن "التيامن" أيضاً في اتجاه الحركة عند السعي ذهاباً وإياباً بين الصفا والمروة، الذي هو من شعائر الله تعالى.

وقال إن الطواف سلوك كوني يشير إلى مظاهر الوحدة والتماثل بين التكاليف الشرعية ونواميس الظواهر الكونية، ولهذا كان شعار التلبية في الحج أثناء الطواف حول الكعبة هو النداء الناطق بالتوحيد: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".

الصفا والمروة

وعن الحكمة من السعي بين الصفا والمروة يقول الدكتور عبدالباسط محمد سيد ـ أستاذ الفيزياء الحيوية بالمركز القومي المصري للبحوث وعضو هيئة الإعجاز العلمي للقرآن والسنة بمكة المكرمة ـ إن بعض العلماء توصلوا إلى أن الأرض عبارة عن قطبين مغناطيسيين شمالي وجنوبي، وقالوا إن الصفا والمروة هما المغناطيس المصغر للكرة الأرضية وإنه شحن للإنسان الذي يسعى بين الصفا والمروة أي القوة المغناطيسية نفسها في الكرة الأرضية هي القوة نفسها الموجودة بين الصفا والمروة، لكنها مصغرة، فأنت تشحن مغناطيسياً بالسعي بين الصفا والمروة ثم تهرول عند منطقة الزوال المغناطيسي التي تقبل القوة المغناطيسية أو تنعدم بين القطبين المغناطيسيين وبعد هذا الشحن الذي اكتسبه من السعي بين الصفا والمروة، إما أن يحلق وإما إن يقصر.

وقال إن الوقوف بعرفة بعد السعي هو في حقيقته بذل المهج في الضراعة بقلوب مملوءة بالخشية، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قال ما معناه: "إن الشيطان يكون أحقر ما يكون في عرفة"، ولذا يحقد على الحجاج لأنه يضلهم طوال السنة ويغفر الله لهم ذنوبهم في يوم عرفة. ففي عرفة نغتسل من ذنوبنا ونعرف الله، فقد تعارف آدم على حواء فوق هذا الجبل إشارة إلى السكن والسكينة، ويقول الله تعالى:"ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وان كنتم من قبله لمن الضالين" 198 البقرة.

رمي حظ الشيطان

ويضيف أن الحجاج يذهبون إلى منى لرمي الجمرات وهو المكان الذي تعرض فيه إبليس لسيدنا إبراهيم وهو ذاهب لذبح ابنة إسماعيل، فرجمه سيدنا إبراهيم بحجر ليبعده عن طريقه، وحقيقته أنك ترمي حظ الشيطان منك بحجر، وقال إن الإنسان يرجع من هناك وليس للشيطان عليه سبيل، فهنا تسكب العبرات فبعد أن غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يريد الله منه أن يبدأ صفحة جديدة بعيداً عن غواية الشيطان، فهو بعد رمية العقبة الأولى ينزل مكة ليطوف طواف الإفاضة الركن ثم يقصر ويذبح، فإذا تاب العبد أنسى الله الحفظة ذنوبه، وقول الرسول- صلى الله عليه وسلم - "ذهب المحلقون بالأجر"، فكأننا نقوم بإعادة ترتيب للمخيخ فلنا عقلان عقل يفكر وآخر يخزن والتحليق يعني أنك أزلت الغمامة التي فوق المخيخ الذي قام بتخزين أعمالك كلها: "وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشورا" 13 الإسراء، فالتحليق قتل النفس، بمعنى قتل حظ النفس من أن تركبك فتهلكك، فلا بد أن تعصي نفسك لكي تنجو.

زيارة قبر الرسول

قال الدكتور عبدالباسط محمد سيد إن عودة الحجاج للمبيت في منى كي يرموا رمية العقبة الثانية هدفها تدرب النفس على مقاومة حظ الشيطان فيها. فأنت ترمي جمرة العقبة الأولى عند الزوال والثانية عند الشروق، لأن الشيطان الأكبر يلازمك بالنهار، أما ولده فيكون معك ليلاً فتوقيت رمي الجمرات مرتبط بوردية الشيطان وولده على رأسك، وبعد رمي الجمرات تطوف طواف الوداع ثم تزور المدينة وقبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأن الله سبحانه وتعالى يقول: "ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً" 64 النساء.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف