جريدة الجرائد

العلمانية مسيحية...لماذا؟

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

السيد ولد أباه

في رحلته الأخيرة لإسبانيا، تحدث البابا "بنيديكت السادس عشر" إلى الصحفيين المرافقين له حول التحديات التي تطرحها العلمانية في الغرب، داعياً إلى "إعادة تنصير القارة"، ومطالباً بخيار العلمنة المتصالحة مع الدين فيها. وقد أثارت تصريحات البابا موجة انتقادات عارمة في إسبانيا التي اعتبر أنها تخلت عن رسالتها التاريخية إزاء المسيحية، معلناً أنها تصلح أن تكون "مختبراً" لتقويم حالة الدين في المجتمعات المسيحية الأصلية.

تعكس تصريحات البابا اتجاهاً ثابتاً لديه منذ اعتلائه مركز البابوية، في سعيه لمعالجة المسألة الدينية في البلدان الغربية التي اختارت النظم العلمانية منذ قرنين لتأمين السلم الاجتماعي من أثر الصراعات الدينية وتحكم المؤسسة الكنسية، فانتهت - بحسب اعتقاده - إلى مخاطر جديدة ناجمة عن تقلص حضور الدين في منظومة القيم الجماعية، مما ينذر بتفتيت الروابط الاجتماعية وتكريس نمط من التعددية القيمية العدمية القائمة على النسبية المطلقة، دون سقف معياري.

ويرى البابا أن النخب المسيحية بحاجة إلى تأمل مظاهر الحيوية الدينية البارزة والمتزايدة في الساحات الدينية الأخرى (يعني هنا أساساً الإسلام) وإدراك ما لها من انعكاس سلبي على الحضور المسيحي في العالم، ومن ثم تحديد عوامل تراجع المسيحية وحدها من بين الديانات الكونية الكبرى.

وعلى الرغم أن الكنيسة الكاثوليكية تصالحت مع النظم العلمانية منذ الإصلاحات التي اعتمدها المجمع الفاتيكاني في ستينيات القرن الماضي، فإنها لم تتخلص من النزعات النكوصية المحافظة التي لم تفتأ تطالب بالرجوع عن خط الفصل الجذري بين الدين والشأن العام.

ومع أن أطروحة عالم الاجتماع الألماني "ماكس فيبر" في تفسير عوامل ظهور العلمانية في السياق المسيحي هي المهيمنة على الدراسات الاجتماعية المعاصرة التي تذهب إجمالًا إلى أن المسيحية مهيأة لاهوتياً للفصل بين المعتقد الفردي والمجال العمومي (ديانة الخروج من الدين)، إلا أن بعض الأعمال الجديدة بدأت تقدم مقاربات بديلة، لا تزال مجهولة في الكتابات العربية السيارة. ومن آخر هذه الأعمال كتاب الباحث الأميركي "مارك ليلا" الذي صدر

the stillborn god بعنوان مثير هو "الإله الذي ولد ميتا".

ويعني بهذه العبارة خصائص التصور المسيحي للإلوهية بالانطلاق من مفهوم "التجسد" الذي أقام داخل التقليد المسيحي توازناً هشاً بين ثلاثة أشكال متمايزة من اللاهوت: "لاهوت التعالي" (الإله المشرع الموروث عن اليهودية) و"لاهوت المحايثة" (الإله الذي تجسد في بشر) و"لاهوت الانسحاب"(انسحاب المسيح - الإله من العالم الدنيوي). وتحدد هذه البنية اللاهوتية المعقدة إطار إشكالية العلاقة بين الله والإنسان والعالم، وفق مذاهب واتجاهات متعددة. وقد انعكس هذا الحوار اللاهوتي في الفكر السياسي المسيحي الوسيط في خيارات ثلاث متباينة هي: الاندماج في النظام الملكي، تسيير المدينة الأرضية بسيفي الكنيسة والدولة، وبناء القدس الروحانية الجديدة.

وليس من الصحيح أن أياً من الخيارات الثلاثة كان منذ البداية هو الخط المنسجم مع المعتقد اللاهوتي، بل إن النزعات الثلاثة شكلت في التاريخ المسيحي الوسيط خطوط تصدع ومواجهة عنيفة، انتهت بالحروب الدينية العنيفة في نهاية العصر الوسيط التي فرضت خيار الانفصال والانسحاب بدل خيار الدولة العقدية.

إلا أن "الفصل الكبير" (بين الدين والدولة) لم يلغ التوتر اللاهوتي عقدياً، كما لم يفض إلى حسم نهائي لحضور البعد الديني في شكله الإطلاقي الخلاصي، الذي يأخذ مسالك ملتبسة غير واعية .

مع الفيلسوف الانجليزي "هوبز" تكرس الانتقال في النظرية السياسية من اللاهوت السياسي إلى التصورات الأنثربولوجية (المتمحورة حول الأبعاد الإنسانية). لم يعد موضوع المبحث السياسي هو الدين والوحي وإنما الإنسان المتدين منظورا إليه من زاوية الاعتقاد والإذعان كظاهرة نفسية كونية توظف في توطيد الولاء للدولة من حيث هي "إله أرضي مخترع". ومع فلاسفة عصر الأنوار الأوروبية أعيدت صياغة مبدأ الفصل من منظور ليبرالي (مفهوم التسامح)، في الوقت الذي تحول الدين من البعد اللاهوتي الضيق ليصبح التعبير عن القاعدة القيمية الجماعية (روسو، كانط، هيجل...).

لكن ما يلاحظه "ليلا" هو ما لاحظه من قبله الفيلسوف والقانوني الألماني "كارل شميت" من كون المقاربات العلمانية قد استوعبت واحتضنت في منطقها الداخلي مقولات اللاهوت السياسي التي اعتقدت أنها أرست القطيعة الجذرية معها. وما يضيفه "ليلا" هو أن خيار "الفصل الكبير" ليس بالضرورة خياراً نهائياً، فلقد عرف الفضاء المسيحي في بدايات ومنتصف القرن العشرين محاولات لاهوتية وصياغات قانونية للرجوع عن النظم العلمانية، كما عرف ظاهرة الإيديولوجيات الخلاصية الاطلاقية التي هي مجرد نزعات لاهوتية سياسية ملتبسة. ويرى "ليلا" أن المجتمعات الغربية عاجزة عن فهم التجارب الدينية - السياسية في الساحات الدولية الأخرى، متوهمة أن المسار الذي أفضى إلى العلمنة في السياق المسيحي قابل للتعميم خارجه، والحال أن المسار العلماني الغربي هو الاستثناء وليس القاعدة.

فالمجتمعات الآسيوية الهندوسية والبوذية طورت علاقة مغايرة للنموذج العلماني من منطلقاتها الدينية، (التي لا تقوم على اعتقاد الإله الواحد الخالق)، وكذا حال المجتمعات المسلمة الرافضة لخيار الفصل بين الدين والدولة.

ولا شك أن هذا الجانب من أطروحة "ليلا" يستدعي نقاشاً متسعاً ليس هنا مجاله. فالسؤال المطروح بقوة اليوم في العالم الإسلامي الذي يعرف تباطؤ ديناميكية التحديث السياسي والاجتماعي هو: هل يمكن توفير مقتضيات الديمقراطية التعددية والحريات العامة دون المرور بمحطة "الفصل الكبير"، التي مرت بها المجتمعات الغربية، وهل النسق العقدي الإسلامي قادر على استيعاب هذا الفصل عقدياً وشرعياً؟

بيد أن نظرية "ليلا" تقدم تصحيحاً مفيداً للمقاربة "الفيبرية" التي اعتبرت العلمنة اتجاهاً ملازماً بالضرورة لنمط الاعتقاد المسيحي وليس مخرجاً من أزمة عقدية وتاريخية انجرت عن الصراعات اللاهوتية والسياسية الحادة التي طبعت مسار المجتمعات المسيحية. أي بعبارة أخرى، لم تكن العلمانية الغربية تجسيداً - ولو بعدياً - لأصل عقدي في المسيحية، وإنما كانت الثمن الباهظ لإنقاذ الدين المسيحي.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لإنقاذ الدين المسيحي
malik -

آخر عبارة في المقال, هذه العبارة يمكن التلفظ بها عندما يكون الدين وضعي و ليس دين سماوي كالديانه المسيحية التي يعتقد اصحابها ان مسيحهم حي و يعيش بينهم و يرعى احوالهم كل يوم. المسيحية ربما تختلف عن باقي الديانات ان مرسلها لا زال حي يرزق و يرعى تابعيه! هكذا يعتقد جميع المسيحيين فالمسيح هو ناصر المسيحيه بقوة الروح القدس! و نصرة الديانة المسيحية تأتي بالدرجة الاولى من قوة المسيح بالروح القدس! و ليس بقوة المسيحيين انفسهم! هكذا يعتقد المسيحيون! فاذا شعر المسيحيون بظلم ما وقع عليهم فأنهم يلتجؤون اولا الى المسيح بالصلوات لا لقيام المظاهرات هنا و هناك! و التي لها تأثير سياسي فقط! فالمسيحية لها فقط منقذ واحد و هو المسيح طبعا يعمل بواسطة خادميه من البشر!

لإنقاذ الدين المسيحي
malik -

آخر عبارة في المقال, هذه العبارة يمكن التلفظ بها عندما يكون الدين وضعي و ليس دين سماوي كالديانه المسيحية التي يعتقد اصحابها ان مسيحهم حي و يعيش بينهم و يرعى احوالهم كل يوم. المسيحية ربما تختلف عن باقي الديانات ان مرسلها لا زال حي يرزق و يرعى تابعيه! هكذا يعتقد جميع المسيحيين فالمسيح هو ناصر المسيحيه بقوة الروح القدس! و نصرة الديانة المسيحية تأتي بالدرجة الاولى من قوة المسيح بالروح القدس! و ليس بقوة المسيحيين انفسهم! هكذا يعتقد المسيحيون! فاذا شعر المسيحيون بظلم ما وقع عليهم فأنهم يلتجؤون اولا الى المسيح بالصلوات لا لقيام المظاهرات هنا و هناك! و التي لها تأثير سياسي فقط! فالمسيحية لها فقط منقذ واحد و هو المسيح طبعا يعمل بواسطة خادميه من البشر!

سفسطة
واحد بسيط -

مفالة معقدة سفسطائية لم افهم منها شيء و لا اعتقد حتى كاتبها يعرف ما الذي يريد توصيله للقراء من مقالته هذه

سفسطة
واحد بسيط -

مفالة معقدة سفسطائية لم افهم منها شيء و لا اعتقد حتى كاتبها يعرف ما الذي يريد توصيله للقراء من مقالته هذه