المسألة المصرية وقراءة حديثة في ملفات قديمة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
عاطف الغمري
يعتبر أحمد عرابي، من أكثر الشخصيات الوطنية في تاريخنا المعاصر، تعرضاً لتشويه دوره ومكانته الوطنية، ضمن ما حفلت به كثير من الكتابات المضللة، من تشويه لخصائص الشخصية المصرية، وإضفاء صفات عليها لم تكن فيها، ووصف المصريين بأنهم في مختلف مراحلهم التاريخية، كانوا مستسلمين، منبطحين، منصاعين، لا يثورون، ولا يصدون عن أنفسهم ما يمس كرامتهم الوطنية، سواء كان ما يقال وما يكتب، هو عن سوء قصد أم بحق جهل .
وأخيراً، كنت أعيد قراءة أوراق قديمة، استوقفتني فيها معلومات موثقة في أرشيف الدولة العثمانية، الذي يحوي الكثير جداً عن مصر، وما كان يجري فيها من أحداث، طوال مئات السنين التي خضعت فيها للحكم العثماني . وكان ضمنه ما هو مسجل عن الحركة الوطنية لأحمد عرابي، التي أسمتها كتابات التزييف ldquo;هوجة عرابيrdquo;، وأحداث صراعه مع الخديو توفيق، وحماته الإنجليز .
هذه الوثائق والمكاتبات المتبادلة بين القاهرة واسطنبول، تصور حركة عرابي بأنها حركة وطنية، كانت لها أهداف سامية، ترمي للحيلولة دون إخضاع مصر للنفوذ البريطاني، ورفض الحكم الاستبدادي المتسلط للخديو توفيق، المستند إلى النفوذ الأجنبي، والعمل على قيام حكم نيابي دستوري يحفظ للمصريين استقلالهم وكرامتهم، وليست كما قيل على ألسنة البعض، حركة تمرد هوجاء .
وقد قرأت بتمعن الدراسة التي كتبها حسن عدلي كبير مسؤولي الأرشيف الوطني في اسطنبول والتي تضمنها كتاب صادر في لندن عام ،1968 عن جامعة أوكسفورد، بعنوان ldquo;التغيير السياسي والاجتماعي في مصر الحديثةrdquo; .
والوثائق التي تخص مصر جمعت في نحو 140 ملفاً، لكل منها عنوان مختلف، الكثير منها محفوظ في أرشيف قصر يلدز باسطنبول، بالإضافة إلى محفوظات الرسائل التي كانت متبادلة بين القاهرة واسطنبول، بين السلطان عبدالمجيد وكل من الخديو توفيق، والخديو عباس حلمي الثاني . ومكاتبات بين السلطان وبين أحمد عرابي . وهذه الملفات التي تختص بمصر، تغطي الشؤون الخارجية، والمسائل الاقتصادية، وبعضها يتعلق بقضايا محددة مثل قناة السويس، أو ملف ldquo;مسألة عرابيrdquo; كما وصفت به . وعودة إلى عرابي وثورته الوطنية، نجد رسالة موقعة من أحمد عرابي إلى السلطان عبد المجيد في أول أغسطس/ آب ،1882 يعلن فيها رفضه لنفوذ القوى الأجنبية في مصر، معلناً أن مصر يجب ألا تسقط في يد الأجانب .
ويقول عرابي في رسالته: إن المشكلات التي تعاني منها مصر، سببها سوء إدارة الخديو توفيق للبلاد، وانعدام كفاءته، وقدرته على الحكم، ووضعه كل أمور البلاد في يد القنصل العام البريطاني . وأن هذا الوضع هو الذي يزيد من أطماع بريطانيا في أن تقوم بغزو مصر، وأن خضوع الخديو توفيق للإنجليز، جعلهم قادرين على أن يفعلوا بمصر أي شيء يريدونه، وأن اختيار المصريين له، زعيما لهم، كان بدافع انقاذهم من هذا الخطر، ومن نظام يطارد الوطنيين بالسجن أو الإعدام .
تقول الوثائق التي تحمل عنوان ldquo;المسألة المصريةrdquo;: إن العرابيين أرادوا عزل الخديو توفيق لخضوعه لنفوذ الإنجليز، على أن يحل محله حليم باشا . وبالرغم من عدم ظهور تأييد من الدولة العثمانية لعرابي، إلا أن حركة عرابي كانت حركة وطنية التف حولها الشعب المصري .
ولما كان توفيق يعلم أن السلطان عبدالمجيد متعاطف مع حليم باشا، فقد تجنب طلب دعم اسطنبول له ضد الحركة الوطنية للعرابيين، ولجأ إلى القنصل العام البريطاني، يستشيره ويأخذ بنصائحه في كيفية التعامل مع الحركة الوطنية التي يقودها عرابي .
لم يكن عرابي وزملاؤه وحدهم في مواجهة الخديو والإنجليز، بل كانوا يستندون إلى تأييد شعبي على مستوى الشارع، وعلى مستوى النخبة خصوصاً من علماء الأزهر، ووقتها بعث مفتي مصر الشيخ محمد عليش برسالة إلى السلطان عبد المجيد يحدثه فيها عن المسألة المصرية، ويصف حركة عرابي بأنها حركة وطنية، وقال أيضاً في رسالته إن الخديو توفيق يفتقد إلى الشعبية بين المصريين .
وقد أرسل السلطان عبدالمجيد سراً مبعوثه سعيد أفندي لاستطلاع آراء العرابيين، لكنه لم يسانده، وظل عرابي مستنداً إلى شعبه في الداخل .
ومضت الأحداث إلى اشتعال القتال بين جيش عرابي، وبين القوات البريطانية التي تدخلت بطلب من الخديو توفيق، ثم هزيمة عرابي في معركة التل الكبير، ولم يغب عن النظر إدراك بريطانيا أن حركة عرابي كانت ثورة وطنية شعبية، وهو ما ظهر في رد فعلها سياسياً فور احتلالها لمصر .
وحين برز دور مصطفى كامل في الحياة العامة، فقد كان محور هذا الدور هو إيقاظ الروح الوطنية للمصريين، وإزالة آثار هذه الحملة التي استهدفت التدمير المعنوي للناس . وكان ما نجح فيه مصطفى كامل، هو الذي دفع المصريين للتحرك الجماعي في المدن والقرى في ثورة ،1919 التي قادها سعد زغلول .
ومنذ هذا اليوم، عام 1919 وحتى عام ،1952 توالت على مصر هبات وثورات لا تهدأ من أجل الاستقلال والحرية والحكم الديمقراطي، بلغت ذروة نضجها في الأربعينيات، تجسدت في نشاطات نهضوية في السياسة، والأدب، والفنون، وكل شيء .
ولم تكن مصر أبداً خاضعة مستسلمة، كما يحلو للبعض أن يشيع .