التعددية اللبنانية والعنصرية الإسرائيلية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
منح الصلح
هل صحيح أن التعددية اللبنانية التي يتحدث عنها الكثيرون حالة تكاد تكون فوضوية، وأنها ظاهرة مرشحة في النهاية لأن تتحول الى حالة عبثية ومدمرة للذات الوطنية الواحدة، أم أن هذه التعددية تضبطها ضوابط من صميم ثقافة الشعب اللبناني السياسي القادر على ضبط هذه التعددية ومنعها من أن تتحول الى قوى متناقضة يصادم بعضها البعض الآخر؟
وأهم من الانسياق السطحي السريع الى التشاؤم أو التفاؤل بل ربما كان الأكثر ضرورة هو جولة داخل مكونات المجتمع السياسي اللبناني ورصد المفاهيم واللغة السائدة عند أطرافه، فإذا كانت النظرة المبسطة الى الحياة السياسية اللبنانية واصطفافاتها، توحي بالتشاؤم، فإنه في المقابل هناك تساؤل: هل هذا صحيح الى الدرجة التي يتصورها البعض، أم أن الواقع اللبناني يبقى أفضل من ذلك؟
لقد ولد لبنان الحالي رسميا بقرار من الجنرال الفرنسي غورو والظاهرة الأبرز فيه هي التعددية، ولكن السؤال الى أي درجة هذه التعددية رافقها نمو وطني جامع للبنانيين، وإلى أي درجة ظلت مجرد أغنية تذكّر اللبنانيين دائماً أنهم كانوا وما زالوا أفراداً وجماعات أكثر مما هم أبناء وطن واحد فمنذ ما قبل إنشاء لبنان الكبير بالشكل الذي هو عليه اليوم والحديث عن مكوناته، يجري بتسمية مناطق جغرافية وتاريخية مختلفة، فهناك أولاً جبل لبنان كما نعرفه الآن، وهناك مدن الساحل أي بيروت وطرابلس وصيدا ثم الملحقات وهي المناطق الثلاث التي نسميها الآن عكار والبقاع والجنوب، وليس إلا مع مجيء الجنرال الفرنسي غورو إلى هنا بعيْد الحرب العالمية الأولى حتى أصبحت كل هذه المناطق التي يتشكل منها الآن جزءاً من دولة هي دولة لبنان الكبير كما سمي في البدء أو لبنان الوطن والدولة كما يعرفه الآن البعيد والقريب.
حتى عشية الاستقلال في العام 1943 بقيت الهوية اللبنانية الجامعة غير مسلّم بها بشكل كامل عند الكثير من اللبنانيين وهكذا يمكننا القول إن لبنان لم يولد حقيقة عند الكثرة من أبنائه إلا بعد معركة الاستقلال المظفرة ضد الانتداب الفرنسي التي لم تعطه الذاتية الوطنية الرسمية والشعبية فحسب، بل أعطته أيضاً الدور داخل المحيط العربي وفي العالم.
حتى عشية الاستقلال في العام 1943 بقيت الهوية اللبنانية الجامعة غير مسلّم بها بشكل كامل عند الكثير من اللبنانيين وهكذا يمكننا القول إن لبنان لم يولد حقيقة عند الكثرة من أبنائه إلا بعد معركة الاستقلال المظفرة ضد الانتداب الفرنسي
ولعله ما من استقلال عن أجنبي أعطى شعباً هوية كما أعطت معركة الاستقلال عن فرنسا لبنان الحالي هويته الجامعة لأبنائه داخل وطنه، والواصلة بينه وبين اخوته العرب بالتوازي مع ظاهرة القومية العربية كقوة دافعة للمسلم اللبناني أطلت ظاهرة المسيحية الشرقية كهوية ملازمة للمسيحي في هذه المنطقة وخصوصياته وتطلعاته وفهمه للغير وكيفية التعامل معه سواء كان مسيحياً أو مسلماً بل إنه منذ أواسط العهد العثماني خُيل لشعوب الشرق الأوسط لفترة غير قصيرة من الزمن أن دولة الشرق الجامعة قد قامت فالأتراك والعرب أقوى المسلمين شكيمة ودوراً تاريخياً وكذلك المسيحيون الشرقيون من روم وروس وبلغار وأرمن كانت لهم جميعاً مع المراجع والأقوام السياسية الغربية ألف حساب وعتاب.
لقد وقفت هذه الأقوام جميعاً وبالحماسة نفسها في وجه الاستعمار الغربي، وكما رفع العرب مسلمين ومسيحيين القومية العربية عنواناً لنضالهم ضد الاتراك، رفعت الأقوام الأخرى في الدولة العثمانية المسيحية الشرقية عنواناً لها.
ولعل الشاعر اللبناني نقولا فياض خير من عبر عن مشاعر المسيحي العربي ازاء الاستعمار الغربي حين قال:
الشرق شرقي أين صارت شمسه
ودم العروبة في دمي وعظامي
سجلت في متنهِ نصرانيتي
وكتبت فوق سطوره إسلامي
فكما تجمع المسلمون العرب حول العروبة شعاراً لهم في معركتهم ضد الحكم التركي، اتخذ المسيحيون أقباطاً أرثوذكساً وموارنة من شرقية كنائسهم شعاراً لهم.
لقد أكد المسلمون في لبنان وغيره من أقطار العروبة على عروبتهم إعلاناً لرغبتهم في التحرر مع اخوتهم المسيحيين العرب من الحكم التركي ولو كان مسلماً، كما أعلن المسيحيون عن شرقيتهم تعبيراً عن رفضهم لحلول الانكليز والفرنسيين محل الأتراك في ممارسة الاستبداد ضد العرب مسيحيين ومسلمين سواء في لبنان أو غيره.
في سورية ولبنان، ومصر والمغرب العربي سادت مقولة: الاستقلال التام أو الموت الزؤام، وجاء هذا النداء واضحاً قاطعاً يخاطب ضمير كل انسان حر في العالم وليس شعوب دول الاستعمار الغربي وحدها. وقد قال غاندي لتقي الدين الصلح الذي جاء يزوره في الهند شاكراً له دعمه للنضال العربي ضد الاستعمار الفرنسي إنه قضى فترة من حياته في افريقيا الجنوبية ولمس هناك أن الزعيم المصري سعد زغلول هو الاسم الأكثر شعبية، فما يصدر عن مصر يحرك أفريقيا كلها.
لقد شكّل كل ما ذكرنا خلفية دافعة للنزوع الاستقلالي في المنطقة، فمن لم تحركه العروبة في دنياه حركته الشرقية في تراثه الديني وما الزعيم القبطي مكرم عبيد إلا مثل على هؤلاء، فقد كان يقول: أنا مسيحي ديناً ومسلم وطناً! وهو قول لا يشعر المسيحي اللبناني أو السوري أو الفلسطيني وحتى العراقي أنه بحاجة إليه رغم ما بدا أخيراً في العراق من ظواهر شوفينية ضد المسيحي.
مثلما يشعر المسيحي العربي أنه مسلم الى حد ما في هذا أو ذاك من المعتقدات الاجتماعية والتصرفات كذلك يشعر المسلم غير العربي أنه عربي في هذا أو ذاك من الحالات. ومع الأسف لا يدرك الكثير من العرب والمسلمين هذه الحقائق التي من شأنها أن تفتح لهم كثيراً من الأبواب.
لقد عاش العرب المسلمون طويلاً معتزين بل مطروبين بالآية الكريمة "كنتم خير أمة أخرجت للناس ..."، ولكن هل كنا نحن دائماً على مستوى الدور الكبير المتاح لنا؟ لو عدنا قليلاً وليس كثيراً جداً الى الوراء، الى الأيام التي تأسست فيها جامعة الدول العربية لشعرنا بدور خاص لمصر والمملكة العربية السعودية يحسد حاضرنا وماضينا عليه وعلى مثل تلك الأفكار والتطلعات الكبيرة رغم ان مصر تلك الأيام لم تكن بمثل التقدم الذي هي عليه اليوم والمملكة العربية السعودية لم تكن بمثل القدرات التي لدولتها وأبنائها اليوم ومع ذلك لا نجد في حاضرنا ما يماثل تلك الأحلام وتلك الهمم التي حركت المصريين والسعوديين في تلك المرحلة، فهل نرضى بالواقع ونحن ننظر الى إسرائيل تتجذر في المنطقة ودول عرب الشمال لبنان وسورية والعراق مهددة على حدودها وغير حدودها؟!
هل فكرنا السياسي العربي تراجع عما كان لا سمح الله؟
لا ندعو حكوماتنا ونخبنا الى التعصبات العنصرية ولا نؤمن بمنطق: إما قاتل أو مقتول كما تقول أمثلتنا العامية، بل الى حد بعيد يمكن القول إن أحداً في العالم لم يعد يؤمن بمثل هذا الكلام. ولكن يبقى مطلوباً لنا ومنا أن تظل أعيننا مفتوحة على حركتنا الداخلية في اتجاه التقدم والتنافسية مع الغير، وعدم السماح لإسرائيل ببناء وجود شبه امبراطوري لها في الماضي خصوصاً ونحن نتابع ظواهر مؤاتية لنا في العالم ومنها تصريح مهم صادر عن الفاتيكان يقول إن إسرائيل أصبحت خطراً على المنطقة، يبشر بولادة نظرة غربية جديدة لمخاطر الصهيونية وإسرائيل لا على فلسطين والعرب فقط، بل على غيرهم ايضاً. ولا غرابة في أن تسبق المرجعية الكاثوليكية الأولى في العالم سائر المرجعيات السياسية الدولية في إدراك هذه الحقيقة والتعامل معها بما تستحق من جدية ونزاهة.
إن أقل ما يقال في تصريح الفاتيكان أنه جاء يفتح عهداً جديداً من امكانية تعاون المسيحية الدولية مع العروبة والاسلام ضد الخطر الصهيوني الذي بات يهدد لا العرب والمسلمين وحدهم، بل سائر القوى العالمية النزيهة والبعيدة الرؤية التي قد ترى في الصهيونية خطراً على كل ما عداها وكل من لا يبارك تسلط الصهيونية على الدين اليهودي نفسه لتسييره ضد قيم العالم غير اليهودي ومصالحه في كل القارات..
ولا شك في أن موقف الفاتيكان إذا حصل لن يلبث أن يغير نظرة جزء كبير من الغرب الى القضية الفلسطينية وقضايا العرب ولعلها فاتحة زمن جديد يتعرف فيه جزء أساسي وقيادي من العالم لا على بشاعة الأطماع الصهيونية فقط، بل على نصاعة الحقوق العربية.
في أكثر من مكان وأكثر من قضية يبدو انه قد بدأ يتضح لاناس جدد أن فهم إسرائيل على حقيقتها لا يخدم العرب فقط، بل يخدم العالم ككل ولابد من القول إن تصريح الفاتيكان بعد السينودس الاخير لمسيحيي الشرق، حول طبيعة الصهيونية وإسرائيل مؤهل لأن يكون طياً لصفحات مخزية من التعامل الدولي الجائر والمخزي مع قضايا العرب والمسلمين في أصرح قضية حق في العالم وهي قضية فلسطين.