لم يبقَ إلا المرأة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
إيمان القويفلي
ما الذي يجعل مسألة ثانوية كهذه تأخذ كل هذا الزخم؟ من الواضح أن السبب لا يتعلق بالمنطق والواقع بقدر ما يتعلق بالطريقة التي ينفجر بها الموضوع، وتكلفة الخوض فيه
بقدر ما تواطأ المتعاركون في موقعة (ذات الكاشيرات) على حقنها بشتّى المعاني، بل بما لا تحتمله من المعاني؛ فإنّهم قد حوّلوها إلى قضية مُفرغة من المعنى.
فمن ناحية التيار الإسلامي "الاحتسابي" الذي شارك في هذه المعركة، من الصعب أن تستقبل خطابه النضالي حول الموضوع دون أن تتساءل بدهشة عن الأسباب والمخاطر الواقعية التي تبرر هذا التصعيد؟! لا يمكن أن يكون مجرّد الخوف من شرعنة وجود المرأة كموظفة استقبال أو محاسبة في مكانٍ مفتوح للجمهور، لأن السعوديات يعملن فعلاً في كل مستوصف ومستشفى تقريباً في هاتين الوظيفتين منذ عقدين أو أكثر، وقد تجاوز عملهنّ هذا قنطرة التوتر الاجتماعي، ولا يوجد مشفى يضطر الآن لخوض معركة رأي عام من أجل توظيف طاقم استقبال ومحاسبة من النساء. كما لا يمكن أن يكون نضالاً ضدّ الاختلاط في العمل بحدّ ذاته، لأن كبرى الشركات في الرياض وجدة والدمام، وبعض المنتجعات السياحية الفاخرة، والإدارات الإقليمية للبنوك؛ هي بيئات عمل مختلطة وقد بات هذا معروفاً، واللافت أن الموظفات اللواتي يعملن في هذه القطاعات تتزايد أعدادهنّ باضطراد وهدوء، دون أن يواجِهنَ هذه العاصفة الاستنكارية والشجب الجماعي، رغم أنهنّ يتمتعن بوضع اجتماعيّ واقتصاديّ مُريح وبمستوى تعليمي عالٍ ومهاراتٍ واتصالاتٍ تسهّل لهنّ العثور على فرص وظيفية أخرى لو أردن، عكس وضع (المحاسبة) التي لا تسمح لها ظروفها وتأهيلها العلمي - كما أفترض - إلا بفرص عمل محدودة جداً لا تتطلب مهارة خاصة؛ رغم هذا، اشتطّ التيار الإسلامي "الاحتسابي" في نضاله ضد توظيف هذه المرأة الأشدّ ضعفاً واحتياجاً للعمل، دون أن يثير ضجيجاً مماثلاً حول القطاعات-مراكز القوى، أعلاه، وهيَ انتقائية تثير التساؤل حول طريقة التيار في اختيار معاركه. أخيراً، من الواضح أن هذا التيار "الاحتسابي" لم يأخذ في اعتباره ثمن هذا التصعيد الذي ستدفعه النساء المحاسبات، ليس فقط في احتمالية فقدان وظائفهن، بل في حملة تشويه السمعة التي شنّها التيار ضدّهن ومزايدته على احتشامهنّ فقط ليبرر موقفه، وهُنّ من سيدفع فاتورتها اجتماعياً.
أما من ناحية المعالجة الصحفية للموضوع، فقد كانت مجرد ردة فعل، وبدت في بعض اللحظات التي أرادها الكُتاب دفاعاً ملحمياً نبيلاً عن المرأة؛ مجرّد (تهريج) خالص. فبإزاء تصعيد الخطاب النضالي للتيار الإسلامي الاحتسابي، تصاعد الخطاب الصحفيّ ليحوّل قضية توظيف المرأة كمحاسبة إلى قضية "مسيرة حضارية" و"تقدم أو تخلف" و"إعاقة للخطط التنموية" و"خطوة جديدة تخطوها المرأة في مسيرتها نحو العلم والعمل"! وهو (تهريج)، أولاً، لأنه يصف توظيف المرأة الجامعية في وظيفة محاسبة بأنه نتيجة طبيعية للمسيرة الطويلة التي قطعتها المرأة السعودية في التعليم والحصول على الشهادات العليا! بينما لا يمكنني وصف اضطرار جامعية إلى العمل كمحاسبة إلا كدليل على الفشل الذريع للخطط التنموية الخاصة بالمرأة وخاصة تلك التي تتعلق بتأهيلها وتدريبها، بحيث إن آلاف الجامعيات ينهين دراستهنّ كل عام دون أن يكتسبنَ أيّا من المهارات المتوقعة من خريج الجامعة. وهوَ تهريج ثانياً، لأن بعض الكُتاب تحمّسوا للتأكيد على أن المرأة المحاسِبَة ستكون "في قمة الأمان" في عملها، رغم أن بيئات العمل السعودية لا تبذل عادة أي جهد لحماية المرأة من التحرش، وأن الموظف عموماً يقف موقف الضعف والخوف أمام جهة عمله؛ فالتأكيد على أن المرأة ستكون "في أمانٍ تامٍ" في هذه الحالة هو تأكيد متهوّر، وليس أكثر من موقفٍ تكتيكي لمواجهة التهويل الذي يمارسه التيار المعارض، لكنهُ تكتيك رديء لأنه من ناحية أخرى، يمثل تخلياً من الصحافة (نصيرة المرأة) عن قضية أخرى شديدة الأهمية للمرأة العاملة هي تشريع أنظمة لحمايتها من التحرش في بيئات العمل وخارجها. إنه تهريج لأن مجرد وجود المرأة في الفضاء العام ليسَ مؤشراً حضارياً، فهي موجودة في كل مكانٍ في أكثر دول آسيا وأفريقيا تخلفاً، لكنها تُعامل كُتكلة من اللحم الـمُعدّة للالتهام؛ أما المؤشر الحضاري الحقيقي فيتعلق بنوعية وظروف هذا الوجود. أما ذروة التناقض فتمثلت في سلسلة الانقلابات الفردية والجماعية على المواقف الـمُعلنة قبل ثلاثة أشهر فقط والمتمثلة في الحماسة الشديدة لمشروع حصر الفتوى في هيئة كبار العلماء، الذين وصفت قراراتهم وقتذاك بأنها ستكون "منهجية" حتماً، و"علمية" بكل تأكيد، ومن "مُختصين، مسؤولين، واعين"، لكنهم يوصفون الآن بخضوعهم للاستدراج وافتقارهم للوعي وإدراك الواقع وإعاقتهم للتقدّم.
ما الذي يجعل مسألة ثانوية كهذه تأخذ كل هذا الزخم؟ من الواضح أن السبب لا يتعلق بالمنطق والواقع بقدر ما يتعلق بالطريقة التي ينفجر بها الموضوع، وتكلفة الخوض فيه. كلما كان الموضوع ذا طابع إعلاميّ أكثر و كُلفة أقل، تزايد عدد المضاربين على الموضوع. واللافت في هذا الموقف هو أن الجميع تقريباً يخوضون فيه ولا يبقى غائباً إلا صوت المرأة ذاتها، المرأة التي اختارت أن تعمل محاسبة أو المرأة بشكل عام. أحد نتائج هذا الغياب ما ذكرته أعلاه من مزايدة على حشمة المرأة أو تجاهل لحاجتها إلى تأمين بيئة العمل المختلط. هذا المنطق الجدلي يوضح أن الهدف الحقيقي للمعركة هو الظهور الاستعراضي بمظهر المنتصر على الطرف الآخر، وأن آخر ما تبالي به هذه المعركة والخائضون فيها، هو تحقيق رغبات وحاجات المرأة.
كامرأة، أعتقد أن ما تحتاجه المرأة فعلاً هو توفر كل الخيارات. ألا تُمنع من العمل في أيّ مكان ترغب وتستطيع العمل فيه، وألا تجبر على بيئة عملٍ معينة، مختلطة أو منفصلة، وأن تكون بيئة العمل في جميع الحالات آمنة ومُريحة. إن كان هناك من يرغب في النضال فليكن موضوع النضال هو رفع الوصاية عن المرأة، واحترام حاجاتها ورغباتها، وتوفير جميع الخيارات لها.