جريدة الجرائد

الفضائيات العربية والفوضى الإعلامية

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

مها بدر الدين

بعد أن كان الإعلام العربي يرزح تحت سيطرة الحكومات العربية تماماً، تسيسه حسب ما تقتضيه مصالحها، وتوجهه نحو ما يخدم أهدافها وأغراضها، وتسيره باتجاه واحد من القمة للقاعدة، فتحجب عن شعوبها ما تريد حجبه من أخبار وحقائق ومعارف، وتعرض ما يهمها أن تمليه عليها لتعزيز فروض الولاء والطاعة.
وفي ظل الثورات التكنولوجية الكبيرة والمثيرة في عالم الاتصالات والمعلومات والشبكات العنكبوتية، تحرر الإعلام العربي من سطوة الحكومات بعد أن أسقط في يدها وأصبح القطاع الخاص شريكاً أساسياً لها في هذه الصناعة شاءت أم أبت، وذلك لما تقتضيه المرحلة الراهنة من وجوب بعض الانفتاح الإعلامي والثقافي تمشياً مع متطلبات الانخراط أو التعايش مع المجتمعات المتحضرة، فانفتح الفضاء الإعلامي العربي أخيراً ليتسع لمئات القنوات الفضائية التي أصبحت سمة العصر الحديث، ولتطل علينا كل يوم قناة فضائية خاصة تحمل طابعاً مميزاً تحدده سياسة القناة نفسها وإيديولوجية مؤسسيها وتوجه القائمين عليها.
ولا نستطيع أن ننكر أن هذا التنوع والانفتاح الإعلامي الفضائي كان من المفترض أن يكون في مصلحة الجماهير العربية بالدرجة الأولى، فتعرضها لمختلف الرسائل الإعلامية التي تحمل مضامين سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية مختلفة ومتنوعة المصدر والرؤى والمنطق، يمنحها حرية انتقاء واختيار الرسالة الإعلامية التي تود أن تتعرض لها بما يتناسب مع عاداتها وتقاليدها وثقافتها الدينية والدنيوية، ويعطيها فرصة لممارسة حرية التعرض والتحليل والتفاضل بين القنوات الفضائية المختلفة التي تشاهدها.
لكن هذه الانفتاح الفضائي غير المسبوق وغير المدروس، والذي ينقصه التشذيب الإعلامي، والتهذيب الفكري، والترتيب القانوني، أفرز بعض القنوات الفضائية التي أثرت بشكل سلبي على هذه التجربة الفضائية الحرة التي كانت الجماهير العربية بأمس الحاجة إليها للخروج من القمقم الإعلامي والثقافي الذي وضعت فيه لقرون، فتفاوتت هذه القنوات الفضائية بمستواها الإعلامي الثقافي والفني والتقني باختلاف أهدافها وسياستها والغرض الذي أطلقت من أجله وكانت الحصيلة بشكل عام إعلاما عربيا فضائيا هشا تغلب عليه السطحية في الموضوع والتناول والصدى.
فبعض القنوات الفضائية الإخبارية العربية التي تصدت لنقل الأحداث من موقعها الأم في أي بقعة من العالم إلى الجماهير العربية محللة ومفسرة ومتابعة بشكل موضوعي ومحايد، وبرغم ما أتيح لها من إمكانات تقنية متطورة وكيانات مالية ضخمة، نجدها قد انحرفت عن سيرها لتنقل الأحداث من وجهة نظرها ونظر القائمين عليها بعيداً عن الموضوعية والحيادية وبما يخدم سياستها أحيانا وسياسة الدولة التي ترعاها أحياناً أخرى ولا تفتأ بين وقت وآخر أن تثير بعض النقاط الحساسة التي تؤجج الفتن وتشعل فتيل الصراع العربي العربي تاركة وراءها الكثير من علامات الاستفهام مثل، ما سرها، ما لونها، من وراءها، ومن ترى تكون؟
كما نجد أن بعض القنوات الفضائية التي تهتم بالشأن الداخلي لدولتها وهموم مواطنيها ومعاناتهم وتطلعاتهم والتي من المفترض أنها قناة اتصال ثنائية المجرى بين قمة الهرم وقاعدته، والتي أطلقت نفسها تحت شعار الوحدة الوطنية والتعايش والارتقاء، قد مالت لاشعورياً نحو ثقافة العشيرة التي ينتمي إليها مؤسسوها وتغلب عليها طابعهم الشخصي بما يحمله من أفكار ومعتقدات واعتقادات موروثة، فبدأت تبث سمومها في عروق مجتمعها على هواها لتستفذ هذا على ذاك، وتثير النعرات الطائفية والقبيلة دون إدرك ووعي وبعد نظر بما قد تؤول إليه الأمور إلى عظيم الشرور.
أما الصياح الفضائي الرياضي الذي يصم الآذان ويفسد الأذواق في عشرات القنوات الرياضية الفضائية، وظاهرة أن لكل لاعب رياضي حالياً قناة رياضية مستقبلا، فقد أفرز طبقة من الإعلاميين الرياضيين الذين لا يمتون للإعلام بصلة وغير مؤهلين لإدارة برنامج إعلامي وإن كان رياضياً ورغم خبرة مقدمه الرياضية العريقة في أجواء الملاعب، فإدارة حوار راق في برنامج يبث على قناة فضائية تصل إلى ملايين البيوت العربية، يشترط أن تكون لغته لغة إعلامية فائقة الاحترام والذوق والبساطة بين مقدم البرنامج وضيوفه حتى لا يخدش الحياء ويؤذي مشاعر المتابعين، كما لا ننسى دور بعض هذه القنوات في تأجيج نار الفتنة بين جماهير الشباب في الدول المتنافسة رياضياً لتصل حدة الخلاف للعلاقات السياسية والديبلوماسية بين حكومتي البلدين بسبب عدم قدرة هؤلاء المقدمين على ضبط الأعصاب وممارسة الديبلوماسية الإعلامية في الحوار بعكس الإعلامي المتخصص المؤهل والمدرب على إدارة رحى مثل هذه المعارك ذات الطبيعة الشعبية.
والحديث يطول عن القنوات الفضائية الدينية والفنية والإعلانية وله شؤون وشجون، ولا يسع هنا المقال لكل ما يراد له أن يقال، لكن ما يجب قوله في ظل هذه الفوضى الإعلامية تحت دعوة حرية الرأي، بأنه يجب التفريق بين التحرر الإعلامي من كل القيود التي تعيق تداول الحقائق والمعلومات والمعارف والثقافات وحتى الترفيه بين الجماهير، والذي ينادي به كل مثقف وإعلامي حر يعرف قيمة الكلمة الحرة والمسؤولة في بناء المجتمع والارتقاء به، وبين التحلل الإعلامي الذي أصبح السمة السائدة لمعظم فضائياتنا العربية على مختلف مشاربها وانتمائها، والذي يسوق لمفاهيم ثقافية مشكوك بمصادرها، وعلاقات إنسانية انفعالية ومتعصبة، ولغة حوارية رديئة المفردات والمعاني، ومعالجات بعيدة عن الموضوعية والحيادية، وموضوعات هامشية سيئة التناول غزت فضائياتنا فحولتها إلى منابر للكلمة الطائشة التي تصيب أخلاقنا وأذواقنا في مقتل.



التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف