جريدة الجرائد

المسيحيون في الشرق

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

عطاء الله مهاجراني


أنا قارئ نهم لمقالات المطران جورج خضر، وأحب "لآلئ الحكمة" للبابا شنودة. ولم يكن من الصعب دائما العثور على فكرة جديدة أو مبتكرة في مقالات المطران خضر. وكان مقاله الذي يحمل عنوان "مسيحيون في المشرق" مليئا بالحب والحزن.

ولهذا السبب، أردت أن أركز على رسالته الروحية والإنسانية. وفي مقاله الذي نشرته جريدة "النهار" يوم 16 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، كتب يقول: "هل غدا الذين قتلوا المصلين في العراق من أمة المسلمين؟ من يقول لهم إنهم خرجوا عن هذه الأمة، إذ ارتكبوا المنكر؟ من الأزهر إلى النجف الشريف مرورا بكل مسلمي الأرض، من يتلو عليهم من كتابهم: (من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا)؟".

من يستطيع أن يجيب عن هذا السؤال المهم؟ السؤال قائم على آية من قرآننا الكريم. ويبدو لي أننا نواجه الآن جانبين أساسيين من الإسلام، وهما الإسلام السياسي من جانب، والإسلام الروحي من الجانب الآخر. لذا، يبرز سؤال آخر: ما هي أصول هذه "الجوانب الإسلامية"؟

ونحن نعرف أن كل المسلمين في العالم يؤمنون بقرآن واحد، ويصلون في اتجاه قبلة واحدة ويؤمنون بنبي واحد، وهكذا، فمن هو المصدر الأساسي لهذه القراءات المختلفة للنص القرآني؟

وبأسلوب آخر، دعوني أكن صريحا، حيث يبرر كل المفجرين الانتحاريين سلوكهم أثناء وقوفهم في المحكمة وهم يصيحون بشعارات ويظهرون مصاحف الجيب الخاصة بهم للصحافيين، فما هي الفكرة الأساسية وراء هذا الاعتقاد وهذا السلوك؟ هذه هي المسألة أو المشكلة الرئيسية التي أريد أن أركز عليها، وأن أرد على المطران خضر. وأنا أعتقد أن اليهودية والمسيحية والإسلام تمتلك الكثير من التعاليم المشتركة.

وكل هذه الديانات الإبراهيمية تمتلك ثلاثة أوجه:

1) الإيمان

2) الفقه

3) جوانب سياسية وحكومية

ومثل البصلة، هناك طبقات مختلفة، وأنا أعتقد تماما مثل غونتر غراس أننا يجب أن نقشر طبقات هذه الديانات! ولا بد أن نأخذ في الاعتبار كل هذه الأوجه الثلاثة والآيديولوجيات الثلاث، والأفعال والخطب. دعوني أقل بطريقة أخرى، العوالم الثلاثة.

والإيمان يشبه طائرا، يحلق بجناحين هما الحب والمنطق. والله هو المحبوب والمحب أيضا "يحبهم ويحبونه". والفقه يشبه الدجاجة التي لا يمكن أن تطير، ولكنها مع ذلك تمتلك جناحين. والإسلام السياسي أصبح قويا بفعل القوة والمحاكم والسجون والتعذيب.

وإذا لم يتمكن أحد أنصار الإسلام السياسي من تحقيق هدفه بالقوة، فإنه سوف يختار الانتحار باستخدام قنبلة. واعتمادا على هذه الفكرة، يزعم المعسكر المؤيد للإسلام السياسي أن هناك إسلاما واحدا فقط يعرفونه ويؤمنون به. وعلى سبيل المثال، كنا نشهد في أفغانستان وباكستان حوادث قتل المصلين في المساجد، ووقع كل من السنة والشيعة ضحايا لهذه الحوادث، حيث قتل كل منهما الآخر.

واغتال الشيعة إحسان إلهي ظهير، وهو رجل دين شهير مناوئ للشيعة، وبعد عدة سنوات، قتل رجل سني (اسمه صباح محمد) الزعيم الشيعي الشهير عارف حسين حسيني في مدينة بيشاور.

ودعوني أذكر أيضا المذبحة التي وقعت بحق مصلين فلسطينيين خلال صلاة الفجر في الخليل يوم 25 فبراير (شباط) عام 1994. وكان باروخ غولدشتاين قد اقتحم غرفة في مسجد الخليل، وهو يرتدي "زيه العسكري مع شارة الرتبة العسكرية، مختلقا صورة ضابط احتياط في الخدمة الفعلية" (تقرير شمغار). وبعد ذلك فتح النار على المصلين فقتل 29 شخصا وجرح أكثر من 125 شخصا (ويكيبيديا). ولا يوجد فرق بين قتلة المسلمين أو المسيحيين. ومنطق القتلة متشابه، حيث يؤمنون كلهم بأنهم هم الممثلون المنفردون للحقيقة، ويؤمنون بأنهم يعرفون ويفهمون مقصد الله، وأنهم سوف يكافأون بالجنة في الآخرة، وليس الآخرون. إنهم يؤمنون بأنهم سوف يصبحون أقرب إلى الله عبر القتل، وتبدو رائحة دم الضحية أكثر جاذبية لهم من أي شيء آخر. ونحن نؤمن بأنه لا فرق بين الأنبياء، كما يقول القرآن الكريم: "لا نفرق بين أحد من رسله".. ونحن نؤمن بأن جوهر كل دين هو الحب، كما يقول نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم: "هل الدين إلا الحب؟".. ونحن نريد أن نعيش أو ندير حياتنا اعتمادا على الحب والمنطق في هذا العالم.. ونحن نؤمن بأنه: "ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى".

وبعبارة أخرى، الإسلام هو دين الحب والعدل والسعادة. وللأسف، فإن الإسلام السياسي يقوم على الكراهية ورفض الآخرين وفضحهم والتشهير بهم والعيش في قفص صغير أو كهف، مع الادعاء بأن هذا هو الوجه الحقيقي للإسلام!

وأود أن أذكر بعضا من ذكريات طفولتي.. فقد كنت أعيش في قرية جميلة اسمها مهاجران، وكانت هناك قرية مجاورة قريبة من قريتنا اسمها هومريان، يسكنها مسيحيون من الأرمن. وكان هناك رجلان هما الشخصيتان الشهيرتان في كلتا القريتين، وهما عالم الدين في قريتنا وعالم الدين المسيحي في هومريان.

وكان المكان متناغما مثل الجنة. وفي هذه الأيام، كان عالم الدين في قريتنا يؤمن بأن كل أهل الكتاب ليسوا أطهارا فحسب، ولكن كل البشر بصفتهم بشرا أطهار في الجوهر!

واعتاد عالم الدين في قريتنا أن يقول لنا: "سوف نلتقي في الجنة إن شاء الله، أنا والأب أرتافوس سوف نكون معا، وسوف تكون قلاعنا قريبة من بعضها". وعندما توفي أرتافوس، وأنا أتذكر وفاته كما لو كانت قد وقعت بالأمس، وقد حدث هذا منذ خمسين عاما بالضبط، كان عالم الدين في قريتنا يبكي بصوت عال، وكانت أكتافه ترتجف. وكانت والدة أرتافوس تقبله، وتقول له: "أنت ابن عزيز".

واعتاد عالم الدين الموجود في قريتنا أن يقول لنا إن كل الديانات تشبه الزهور، ولكن ألوانها ورائحتها مختلفة، بيد أن كل الديانات تشبه الزهور.. تخيلوا لو كان لدينا زهرة واحدة فقط بلون واحد ورائحة واحدة، إذن لأصبحت الحياة مملة جدا وعديمة اللون.

عزيزي المطران خضر، قتلة المسيحيين الأبرياء في العراق هم ضحايا الإسلام السياسي، ولم يقتل المسيحيين فحسب، ولكن القتلة أيضا قتلوا أرواحهم وأجسامهم. ولهذا السبب، فإنني أعتقد أننا لا بد أن نميز بين الإيمان والفقه والإسلام السياسي.



التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف