جريدة الجرائد

المثقف والسياسي في الوطن العربي

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

رضوان السيد

بوفاة الدكتور عبد العزيز الدوري قبل أيام، تكونُ حقبةٌ طويلةٌ قد انقضت، اتخذت فيها علائق المثقف بالسياسي، والثقافة بالسلطة، شكلاً معيَّناً وصيغةً ذات سياق. بل إنّ تلك المرحلة التي كان الدوري أحد رموزها، انقضت دونما بدائل واضحة وقبل قرابة الثلاثة عقود. والمثقف الذي نقصده هو المثقف الأَيديولوجي، الذي كان يشارك على نحوٍ ما في بناء الدولة والنظام، وقد يكون ذلك بالصيغة التقنية، لكنّ المقصود ما يتجاوزُ التقنيات إلى الشأن الأيديولوجي أو شأن المشروعية. وقد شارك الدوري بالشكلين؛ فكان أحد مؤسِّسي جامعة بغداد، ثم رئيسها لخمس سنوات، وفي الوقت نفسِه عمل من الناحية الفكرية والتاريخية والثقافية في تثبيت انتماء العراق وقوميته وعروبته بكتبه بعد انقلاب عام 1958 عندما كتب عن الجذور التاريخية للعروبة، والجذور الشعوبية والجذور العربية للاشتراكية.. وأخيراً، وفي الثمانينيات وما بعدها، مقالاته الكثيرة وكتابه عن التكون التاريخي للأمة العربية.

والواقع أنّ طلائع الدولة الوطنية المتكوّنة فيما بين الحربين، شهدت نمواً متسارعاً أو صراع مشاريع بين المحليات والقوميات؛ في أكثر الدول العربية. فالمعروف أنّ الدول المنتَدَبة كوَّنت سُلَطاتٍ وطنيةً في مشارق العالم العربي ومغاربه. وقد تشارك في هذا التكوين السياسيون والمثقفون. وكانت الدول الاستعمارية المنتدبة (وبخاصةٍ فرنسا) تعمل مع السياسيين الجدد والمثقفين على نُصرة الخاصّ والمحلّي والإثني، في حين انصرفت فئاتٌ من المثقفين والسياسيين إلى تنمية وعيٍ قوميٍّ عربيٍّ كان قد شهد بداياتٍ خجولةً له في أواخر الزمن العثماني. ومع أنّ التصارُع كان مستوراً بعض الشيء لسعي الجميع للخلاص من الاستعمار؛ فإنه ما لبث أن انفجر على أثر الحرب العالمية الثانية، وبروز القضية الفلسطينية. فمن جهةٍ أرغمت الولاياتُ المتحدة دول الاستعمار القديم على الانسحاب، ومن جهةٍ أُخرى ظهرت "قوى جديدة" تمتلك وعياً وطنياً قوياً أو وعياً قومياً بالتحديد، وقد قاد طلائعه العسكريون الذين ما لبثوا أن سيطروا على الأمور في أجزاء عديدة من العالم العربي، فحظوا بدعمٍ متزايدٍ من النخب الثقافية، وهي النُخَبُ التي كانت قد عرفت الفكر القوميَّ والدولة القومية من خلال الدراسة أو العيش في أوروبا. ومن تلك النُخَب شخصيات مثل ميشال عفلق وساطع الحصري وقسطنطين زريق وعبد العزيز الدوري وعبد الرحمن البزّاز وصالح أحمد العلي وآخرين كثيرين.

أمّا مثقفو ما قبل الحرب الأُولى فقد شغلتهم مسألةُ التقدم، وكيف يتجاوزون عبر التعليم وبناء المؤسَّسات التخلُّفَ والاستعمار معاً. وأمّا مثقفو ما بعد الحرب الثانية فشغلتهم المسألة السياسية: بناء الدولة القومية المستقلّة أو الدولة القومية العربية الواحدة. وقد نشأت حركاتٌ وأحزاب محليةٌ ذات نزوعٍ قومي. وكان هؤلاء على عجلةٍ من أمرهم- وبخاصةٍ بعد سقوط فلسطين في أيدي الصهاينة- فالتحقوا بالعسكريين الذين استولوا على أنظمة الحكم، بسهولةٍ تُضاهي سهولةَ حلول الأميركيين محلَّ الفرنسيين والبريطانيين.

من الذي احتاج للآخر: العسكريون أم المثقفون؟ هناك من يذهب إلى أنّ العسكريين هم الذين احتاجوا للمثقفين بسبب حاجتهم إلى "الشرعية"، فهم يفتقرون للشرعيات الثلاث (فيبر)؛ التقليدية، والدستورية، والكارزماتية، إذ وصلوا بالانقلاب. وقد رحّب الأميركيون بذلك ضمناً أو صراحة، باعتبار أنّ العسكريين هم الحاجز الأقدر في مواجهة الشيوعية. لكن رغم ذلك كان لابد من غطاءٍ ثقافي سياسي أو سياسي ثقافي. وقد كان المثقفون القوميون متشككين بعض الشيء في هؤلاء الطالعين الجدد، لكنهم كانوا يعرفون أنّ أحزابهم لن تفوز بانتخاباتٍ برلمانيةٍ دأبت القوى التقليدية البورجوازية أو العشائرية على الفوز بها في زمان الانتداب؛ لذلك اندفعوا باتجاه المسيطرين الجدد يحدوهم أملان: أمل تحقيق الانتماء، وأَمَل الاندفاع في التحديث، وتجاوُز الخمول والتقليد في الأمرين. وبالفعل فقد حصلوا على شراكةٍ متوسطةٍ في وظائف الدولة الجديدة ومناصبها؛ إنما الأهمُّ أنهم سادوا في الأجهزة الثقافية والإعلامية، وانصرفوا إلى التنظير للعروبة ولفلسطين وللوحدة.

على أنّ هذه المرحلة الحماسية سُرعان ما انقضت بسبب تصاعد الحرب الباردة، واندفاع العسكريين والحزبيين باتجاهاتٍ ثوريةٍ واشتراكية في مواجهة معسكر الولايات المتحدة، ومع معسكر الاتحاد السوفييتي. وعندما كان مايكل هدسون، أستاذ العلوم السياسية الأميركي، يدرس وسائل ومسائل الشرعية في الأنظمة العربية في أواسط الستينيات؛ فإنه أضاف إلى شرعيات فيبر الثلاث نوعاً رابعاً هو الشرعية الناجمة عن التغيير أو الشرعية الثورية! والمُهمُّ فيما نحن بصدده أنّ هذا التحول الثاني أخرج من بين أعوان الأنظمة الثورية المثقفين القوميين غير الحزبيين، وكان من بين الخارجين في الدفعة الأولى هذه عبد العزيز الدوري وآخرون عديدون. وقد قال لي مرةً ضاحكاً، عندما كنتُ أسألُهُ عن كيفية خروجه من العراق بعد انقلاب البعثيين عام 1968: اكتشفتُ أنّ أولادنا من "التقدميين" والثوريين كانوا يعتبرونني ويعتبرون البزّاز وآخرين: قوميين شوفينيين!

على أنّ التحول الثالث ما تأخر كثيراً. ففي أواسط الثمانينيات، خرج أيضاً من بين حواشي السلطة والسلطان المثقفون الراديكاليون والحزبيون. وقد استغنت الأنظمة عنهم بسهولةٍ، بل وأدخلت بعضهم السجون، ليس لأنّ "شرعيتها" صارت فائضةً عنها وما عادت بحاجةٍ لفذلكاتهم؛ بل لأنّ التحولات المتسارعة في الحرب البارة، ألجأتْ تلك الأنظمة إلى الولايات المتحدة مجدداً، وصارت تؤدّي لها وظائف وأدواراً فما عادت تشعُرُ بالخطر، ثم لأنّ أكثر المثقفين الباقين في الحاشية بدأوا يتململون ويتحدثون عن ضرورات المشاركة والديمقراطية، حتّى تلك التي كانوا يعتبرونها في الستينيات بين طموحات البورجوازية الصغيرة والمقيتة!

ماذا كانت مصائر المثقفين القوميين والتقدميين الذين خرجوا من حواشي السُلَطة؟ أما المثقفون القوميون فكانوا في غالبيتهم من الأكاديميين، لذلك فقد استطاعوا أن يتدبَّروا أُمورَهُم، واستمرّ بعضُهم، مثل الدوري، يعمل في نطاقه الأكاديمي، وضمن التفكير القومي أو المدرسي الأكاديمي. وكانت للبعض منهم إنجازاتٌ فاقت ما عُرف عنه في مرحلته القومية السياسية؛ مثل الدوري وزريق والعلي. ومن المصادفة أنّ هؤلاء الثلاثة (وقد توفوا جميعاً عن سنٍ عالية) كانوا مؤرّخين أكاديميين، وقد بلغوا بصناعة التاريخ ذروةً ما عرفتْها من قبل، سواء ما تعلق منها بالتاريخ العربي والإسلامي أو ما تعلّق بفلسفة التاريخ. أمّا التقدميون فتفرقوا شذر مَذَر، وصارت قلةٌ منهم ضمن الليبراليين الجدد، أمّا معظمُهُمْ فأصرُّوا على الأطروحات الراديكالية مع إضافة الديمقراطية إليها. إنما الذي كسف شموس هؤلاء وأولئك ليس الحكّام أو الأنظمة، وإنما الإسلاميون. إذ عندما بدأ هؤلاء في الخمسينيات كان جزءٌ من الشرعية الثقافية والسياسية بأيديهم، أمّا عندما نبذهم الحكّام في الثمانينيات؛ فإنهم وجدوا أنفُسَهُمْ في العراء لأنّ الإسلاميين الحزبيين وغير الحزبيين كانوا قد حلُّوا محلَّهم، بل ومحلّ المؤسسات الدينية التقليدية، ومحلّ المعارضات السياسية!

لقد شهد هذا العام وفاة أربعة أو خمسةٍ من كبار المثقفين العرب القوميين واليساريين والحداثيين، وما مات أحدٌ منهم إلاّ بأجَله بالطبع؛ لكنهم كانوا رموز مرحلةٍ مضت وانقضت منذ زمن. وبين الثقافة والسياسة في الوطن العربي أزمةٌ بل أزماتٌ تتعقّد وتتراكم، والدليلُ أننا ما عُدْنا نجد في السجون أو المنافي (السياسية) غير هؤلاء المثقفين الذين تنقضي أعمارُهُم، دون أن يحققوا شيئاً من طموحاتهم القومية أو التقدمية أو الحداثية.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف