جريدة الجرائد

الهيئة.. سيرة مجتمع!

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

عبد العزيز السماري

قد تكشف سيرة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أشياء من مراحل تطور المجتمع السعودي ومن أزمان تغيره وتبدله من حال إلى حال، ففي سالف هذه الأزمنة كان نشاط الهيئة اجتماعياً، يتصف بالود والرأفة بالناس، وكانت النصيحة دائماً ما تصاحبها مبادرة التسامح، وتذوب فيها عاطفة الأبوة..

لكن الوضع دخل طور الطفرة في منتصف السبيعينيات عندما بدأت ملاحقة الشباب الجدد، ذوي الشعور الطويلة، فقد كانت تجبرهم على دخول أماكن الحلاقة من أجل قص الشعر من جذوره تحت الإكراه، وكانت معظم قصص الحارة تدور حول قصص المطاردة بين أفراد الهيئة وبين الشباب في الأسواق، لكن ذلك توقف بعد عدة أحداث تراجيدية ذهب ضحيتها أحد أعضاء الهيئة، عندما تلقى ضربة قاسية في مؤخرة رأسه....

بعد انحسار مرحلة "الخنافس"، أو الشعر الطويل تبدل نظام الهيئة، ليتخلى عن عصا الخيزران، ولتبدأ مرحلة ارتباطه برجل الأمن، وكان من مهامها الجديدة ملاحقة الأشكال المشبوهة والتحقيق معهم، واعتقالهم إذا لزم الأمر وثبت أنهم مخالفون للنظام، ويتم عادة تسجيل الحادثة رسمياً، بعد أخذ التعهد والإقرار من المذنب حسب ما تراه الهيئة..،

بعد سنوات اكتشفوا أن تسجيل الأحداث والمخالفات يخدم قضيتهم، فالبيانات والإحصاء أصبحت مصدرا لتبرير استمرارهم في مراقبة المجتمع، ولم يخل من أحداث كان ضحاياها شباب وفتيات في مقتبل العمر، بسبب إلصاق تهم غير صحيحة أحياناً، وبسبب التشهير بهم في أحيان أخرى، مما أحدث ردة فعل دموية من أهاليهم..، وفي جانب آخر كان للهيئة أدوار إيجابية في ضبط بعض مروجي المخدرات والخمور والدعارة،..

أدى تقسيم المجتمع في أواخر السبعينيات والثمانينيات إلى ملتزمين وغير ملتزمين إلى دخول أعداد متطوعين لا حصر لهم في نشاط الهيئة، وليبدأ قصة أطول صدام أهلي في المجتمع، وكانت المواجهة بين ما اتفق عليه ظاهراً على أنه الملتزم، وبين الآخرين الذين تم حصرهم في قائمة غير الملتزمين، وقد وصلت الملاحقات إلى الذروة في فترات الثمانينيات والتسعينيات، ونتج عن ذلك أحداث يصعب حصرها، ولأنه لا يوجد سجل يحفظ تاريخ المصادمات، ضاع جزء كبير من تاريخ الهيئة، لكنه محفور في ذاكرة المضطهدين..،..

كذلك كان لهم أثر غير مباشر في الاقتصاد ودورة الثراء الفاحش، فقد كانوا يراعون أقوال الإمام أحمد بن حنبل- رحمه الله- في عدم الاصطدام مع المنكر الذي قد يحدث في حمى بعض ذوي النفوذ، بينما كان يقصد الإمام الأهالي المتطوعين في النهي عن المنكر، وكان نتيجة ذلك ازدهار أسواق مركزية وإخفاق أخرى بسبب المطاردات داخل الأسواق، ويدخل في ذلك الموقف من حرمة المقاهي الشعبية التي تقدم مختلف الأنواع التقليدية من التبغ، فقد أصبح بعض ملاكها في طبقة الأثرياء بسبب سياسة غض النظر، بينما تكبد آخرون الخسائر بسبب هجمات أعضاء الهيئة على مراكزهم في أطراف المدينة..، ويدخل أيضاً في ذلك أسواق بيع "الرسيفرات"، وغيرها من محلات الموسيقى والفيديو..

لكن يبدو أن الحال تبدل بعض الشيء في السنوات الأخيرة، فقد استطاع المجتمع في بعض الممارسات التعسفية أن يقف على قدميه بعد أن كان يترنح لعقود بسبب ضربات أفراد الهيئة، وأن يقف ضد التجاوزات التي تمارسها الهيئة أحياناً ضده، فدخول المنازل بدون إذن صار تهديداً للبيوت الآمنة، ولأولئك الذين استتروا، لكن مع ازدياد الوعي القانوني بحقوق الإنسان، أصبح المواطن لا يقبل بالإهانة أو التعدي على حقوقه من قبل أفراد الهيئة، وأصبح الإعلام يشارك بفعالية في رصد الأحداث الجسيمة التي كانت بسبب تدخل غير مشروع لأعضاء الهيئة.، وكانت نتيجة ذلك ازدياد القضايا الجنائية بين المواطنين والهيئة..

أخيراً قد يراجع أحفادنا في يوم ما حدث في سيرة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي كانت تحكي قصة إصلاح مجتمع، كان هدفها عسف حراكه الفطري ثم تحويله إلى مجتمع ملائكي لا يحدث فيه إثم ولا زلة، لكن في نهاية الأمر لم ينضبط المجتمع بشروط الالتزام، وسار في اتجاه مخالف، وربما قاده ذلك العسف الجبري إلى التغريب عند بعض فئاته، وكان من الأجدى أن نتعلم مما توصل إليه الفاروق- رضي الله عنه- مبكراً من قصة تغريبه لربيعة بن أمية بن خلف إلى خيبر بسبب شربه الخمر، فقد لحق ربيعة بهرقل، وتنصر، فقال عمر حينها: لا أغرب بعده مسلماً أبداً.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
مقال رائع
جميل -

الكاتب إستطاع من خلال كلمات معدوده ان يقدم صورة إنطباعيه عن سيرة المجتمع السعودي والهيئة أقدم إعجابي الكبير