«ويكيليكس»... وعصر الحقيبة الدبلوماسية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
وليد نويهض
ضحايا كثيرة سقطت منذ أن بدأ موقع "ويكيليكس" بنشر الوثائق السرية. فهناك دول ومنظمات وهيئات ورؤساء وسفراء ووسطاء ورد ذكرهم في الملفات. وهناك برقيات ورسائل ومهاتفات ومحادثات كشفت عن تفصيلات مؤذية أو محرجة أو مهينة جاءت في قنوات دبلوماسية وعسكرية ومدنية تناولت مختلف الشئون المتصلة بالحربين على أفغانستان والعراق.
اليوم يستعد العالم لمواجهة موجة جديدة من الوثائق المقلقة ما دفع الإدارة الأميركية إلى الاستنفار وإجراء اتصالات بالعواصم المعنية للتهدئة واحتواء تبعات الكشف عن المصادر السرية والمحادثات المشفرة والاتصالات الجانبية التي يرجح أن تأتي أوراق "ويكيليكس" على ذكرها بالأسماء والأرقام والمواعيد وربما الصور.
حال الذعر التي تعيشها الدبلوماسية العالمية لأسباب قد تكون عفوية أو مفتعلة أو مقصودة وربما تقف وراء نشرها جهات عليا أو مراكز قوى متنافسة أو مجموعة "لصوص صغار" أو خبراء في الإنترنت والكومبيوتر أعادت طرح السؤال بشأن مصير "الحقيبة الدبلوماسية" وانتفاء دورها والحاجة إليها. فهل انتهى عصر الحقيبة أم أن موقع "ويكيليكس" أعاد إليها وظيفتها السرية السابقة؟
الاحتمالات مفتوحة بين الاتجاهين. فالحقيبة الدبلوماسية التي لعبت دوراً خلال فترة ثلاثة قرون في تنظيم العلاقات بين الدول بعيداً عن التفتيش والرقابة أخذت تفقد امتيازاتها الخاصة حين تطورت وسائط الاتصالات واحتلت الموقع البديل في تبادل الرسائل وبث المعلومات ونقل التقارير.
تراجع دور الحقيبة الدبلوماسية العابرة للجمارك والحدود الذي بدأ منذ ستينات القرن الماضي ترافق مع المحافظة على شروط السرية وعدم النشر إلا بعد أن تصبح الوثائق جزءاً من الماضي. فالرسائل والتقارير والآراء والتعليقات التي كانت تنقلها الحقيبة حافظت على مقامها الخاص في أراشيف وزارات الخارجية لكونها تتضمن مجموعة أسرار يمنع نشرها قبل رحيل أصحابها تجنباً للإحراج والفضائح أو تعريض حياة القادة والناس للمخاطر والإهانة.
لعبت الحقيبة دورها في صيانة هيبة الدول والزعماء إلى جانب وظيفة موازية وهي خرق السيادة وعدم خضوعها للتفتيش أو الملاحقة القانونية. فالحقيبة كانت فوق الدول وعابرة للحدود وهي رسمت خلال مدار ثلاثة قرون هيبة مستقلة يتم التعامل معها باحترام وحذر خشية انكشاف "الأسرار" وانفضاحها.
بسبب الخصوصية الدبلوماسية للحقيبة تشكلت حولها مع الأيام مجموعة طقوس وصلت أحياناً إلى طور القداسة والمحرمات تحت يافطة حق المحافظة على "الأسرار". وحرصاً على تلك الوظيفة ابتكرت الدول الكبرى وسائل تضمن عدم تسرب المعلومات وكشفها فلجأت إلى وضع دفتر شروط للنشر يقوم على ترتيب الملفات في محفوظات خاصة يمنع الاطلاع عليها إلا بعد مرور المهلة الزمنية المقررة سلفاً من الخارجية أو الدفاع أو المخابرات أو السلك الدبلوماسي.
المهل الزمنية كانت تتفاوت بحسب الأهمية والخطورة والحساسية. فهناك وثائق يسمح لها بالنشر والاطلاع عليها وتصويرها في فترة عشر سنوات، وهناك وثائق يمنع تداولها إلا بعد 20 سنة، وهناك وثائق لا تفتح إلا بعد 30 أو 40 أو 50 سنة، وأخيراً هناك من "الأسرار" النوعية التي لا تكشف إلا بإذن خاص من القيادة السياسية حتى لو مر عليها نحو مئة سنة.
ساهم السلم التراتبي للمهل الزمنية في تنظيم العلاقات الدبلوماسية بين الدول طوال ثلاثة قرون، وأعطى الحقيبة تلك الوظيفة السحرية بوصفها تشكل ضمانة لعدم انفضاح الكواليس وكشف الأسرار إلا بعد أن ينقضي وقت الوثائق وتصبح من الماضي ويكون الكبار في عداد الموتى والشهود خارج الزمن.