أركون بين أوروبا والغرب
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
طيب تيزيني
لا بد من الإشارة الى نقطة ذات حساسية تتصل بالمفكر الراحل محمد أركون، يمكن تلخيصها بأن الباحثين والنقاد في الفكر العربي، بل في الفكر العالمي المعاصر لم يقوموا في جهودهم الدرسية الأكاديمية والأخرى النقدية بما يكفي للبحث في الإنتاج الفكري الواسع الذي أطلقه المفكر المذكور على امتداد سنين ليست قليلة. وقد يكون القول دقيقاً بأنه ربما أصبح تقليداً في الفكر العربي أن يُبحث في إنتاج هذا المفكر العربي أو ذاك وأن يُكرم هو نفسه غالباً بعد وفاته، ولعل أحد أسباب ذلك يكمن في كون المفكر، المحتفى به في هذه الحال الآن كان غالباً مقيماً خارج الوطن العربي، ومن هنا، جاءت الدعوة العلمية، التي أطلقها مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت للتدارس يوم الرابع من الشهر القادم في الإرث الفكري الغزير الذي خلّفه المفكر أركون.
وإذا انطلقنا من أن أركون أطلق حزمة من المفاهيم والأفكار والأسئلة التي تحفز علي الحوار فيها وفيما تتعلق به من مثيلاتها عند مفكرين آخرين عرب وغير عرب، فإنه يتضح العبء الذي يقف أمام الباحثين العرب وغيرهم لمواجهة ذلك الواجب. من ذلك، نلاحظ أن الراحل أتى على مفهومي "الغرب" و "أوروبا"، كما يجري تداولهما من قبل عدد من الباحثين والكتاب العرب. وكان ذلك بمثابة دعوة جادة لإعادة قراءة ما قدمه هؤلاء لأمثال ذلك الثنائي الأخير. ومن حسن الحظ التاريخي ما قدمه المفكر الكبير قد لبّى دعوة جامعة البلمند عام 2002 في لبنان، فقدم محاضرة نشرتها صحيفة "النهار" بتاريخ الاثنين 27 أيلول / سبتمبر من العام المذكور.
وقد جاء نص المحاضرة تحت العنوان التالي: "إعادة التفكير في الظاهرة الدينية..." في المحاضرة المذكورة جاء ما يلي: "أشدد هنا على ضرورة التمييز اليوم بين ما نسميه الغرب، وما نسميه أوروبا. ففي خطابنا العربي نركز على الغرب أكثر مما نركز على أوروبا. وفي الخطابات والمناقشات التي تلت حادثة 11 سبتمبر نجد الكلام موجهاً ضد الغرب المستعمر المهيمن، أكثر منه ضد أوروبا، لا بل لا نتكلم على أوروبا بتاتاً".
ولعلنا نلاحظ فعلاً ضرورة التمييز بين الغرب وأوروبا، حين نواجه أخطاء ترد في سياق كتابات لدى باحث أو آخر، كما حدث مثلاً عن المفكر الراحل إدوارد سعيد. فهذا الأخير لا يكتفي - عموماً وإجمالاً - باستخدام المصطلحين على نحو يوحي بكونهما مصطلحاً واحداً هو الغرب، بل هو يستخدم هذا الأخير - كذلك - بمثابة بنية واحدة، وذلك حين يأتي على الحديث عن "وعي وطني أو قومي واحد" وهو الوعي الغربي المواجه للشرق. وبرأي سعيد، يأتي حين يكون الوعي "الغربي" غائباً لدى هذا الغرب وحالاً محله "تضامن عاطفي" مع الشرق. وبتعبير آخر، الغرب العقلاني واحد في مقابل الشرق، وذلك حين يكون منطلقاً من عقله "الغربي"، في حين يلتقي الأول مع الثاني على سبيل التضامن معه. وفي هذه الحال، يغيب العقل الغربي الواحد والموحد، لصالح تضامن إنساني عاطفي، كما حدث - حسب سعيد - في أثناء الحرب الأميركية على العراق.
ذلك الخلط بين المصطلحين، بل الاضطراب الذي يُحدث غمامة سوداء في العلاقة بينهما، يحاول أركون أن يُدلي بدلوه فيها، حين يطالب بالتمييز التاريخي والبنيوي بينهما. ولا شك أن جهوداً كبرى يتعين على المفكرين والباحثين العرب خصوصاً أن ينجزوها على صعيد المسألة المطروحة ومسائل أخرى كثيرة. ولا سبيل الى تجاوز القول بأن نمطاً من الموت السريري يخترق معظم أولئك لأسباب متعددة، على الأقل في ضوء غياب التعددية في معظم النظم العربي، التي ترى فيها (أي التعددية) تعدياً على سيادتها على الرأي العام العربي.