الطائفية وتشكيلات ما قبل الدولة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
عبدالحسين شعبان
ما السبيل للخروج من الشرنقة التي لفّت المشهد السياسي العراقي طيلة السنوات الماضية، لاسيّما وقد أنذرت بانهيار العملية السياسية بعد تعطّل تشكيل الحكومة لأكثر من ثمانية أشهر؟، فعلى الرغم من إطفاء بعض النيران، فإن الكثير منها ما يزال تحت الرماد، خصوصاً ما يتعلق بموضوع التقاسم الوظيفي أو ما سمي ldquo;الشراكةrdquo; كتعبير ملطّف عن المحاصصة، لاسيّما إذا اتسمت ببعد طائفي، فصيغة بول بريمر ما زالت قائمة حتى الآن، ولعلها قد تصبح عرفاً مستمراً إذا ما دلّ عليه تواتر الاستعمال وعنصر التكرار وموافقة الأطراف المعنيّة، ولعل التجربة اللبنانية خير دليل على ذلك . ولم تخرج المعادلة في العراق حتى الآن عن رئيس وزراء شيعي له الصلاحيات الكبرى، ورئيس جمهورية كردي، ومع أن منصبه بروتوكولي، فإن التشبث به يصبح مسألة نفسية، أما رئيس البرلمان فإنه من حصّة السنّة الذين يقبلون به على مضض .
ومع استحداث منصب جديد، هو المجلس الوطني للسياسات الاستراتيجية وتخصيصه لإحدى قيادات القوائم الفائزة، فهو ليس سوى ترضية ولا أساس له في الدستور، ومهماته لا تزال غامضة وعائمة، ولا يمكن أن يكون فوق المؤسسات الدستورية القائمة، وعلى الرغم من وجود سلطة ثالثة هي السلطة القضائية، فيبدو أن لا أحد يهتم بها، حتّى وإنْ نادى البعض بمنع تسييسها، لكنها ظلّت أبعد عن دائرة الصراع المباشر، وهي تعكس النظرة القاصرة إلى دور القضاء، ولعلّ إلفات النظر إلى ذلك لا يستهدف التقاسم الوظيفي في هذه السلطة الثالثة المهمة، بقدر ما يهدف إلى إبعاد هذا الحقل عن حمّى المحاصصة والسعي لتعزيز استقلاله ونزاهته، ليقوم بدوره المحايد .
إذاً ما يزال المشهد السياسي يعاني الاصطفاف والاستقطاب الطائفي والمذهبي، على الرغم من انخفاض منسوب الطائفية مجتمعياً، لكن تأثيراتها الخطيرة ما تزال قائمة، خصوصاً كلما لاح توزيع المناصب والاستحقاقات الوزارية والوظائف الحكومية العليا .
وإذا اقتصر حديثنا على التاريخ المعاصر للدولة العراقية الحديثة التي تأسست في 23 أغسطس/آب ،1921 فالمشكلة تتعلق بما ورثته من انقسامات من الدولة العثمانية، حيث كان العراق مسرحاً لحروب ونزاعات مسلحة، بين الإمبراطورية الفارسية، ولاسيّما أيام الصفويين، وبين دولة الخلافة العثمانية، وهو الأمر الذي انعكس على الساحة العراقية احتراباً واقتتالاً واستقطاباً، وخصوصاً على الفرق والمذاهب بمساعدة الطرف الفارسي الصفوي حيناً، وبدعم من الطرف العثماني التركي حيناً آخر . وكان كل منهما عندما تستقيم له الأمور ينكّل بالآخر ويمارس العنف ضده ويتجاوز على مقدساته وطقوسه .
وعندما فشل المحتلون البريطانيون في حكم العراق مباشرة، وأعلن مجلس عصبة الأمم الانتداب على العراق سعوا إلى زرع بذرة الطائفية قانونياً، في مواجهة الوحدة الوطنية العراقية، لا سيّما بعد اندلاع ثورة العشرين في يونيو/حزيران ،1920 حيث شهد العراق التحاماً وطنياً ودينياً وعشائرياً متجاوزاً المشروع الطائفي، بالإجماع على حق العراق في الاستقلال وفي حكم نفسه بنفسه وتقرير مصيره، وإجلاء القوات البريطانية عن أراضيه، ما دفع البريطانيين إلى التفكير في استخدام سلاح ldquo;فرق تسدrdquo; فلجأوا إلى سنّ قانون طائفي للجنسية، هو القانون رقم 42 لعام ،1924 وكان ذلك قبل صدور دستور العراق ldquo;القانون الأساسيrdquo; الذي صدر في عام 1925 .
وقد ميّز هذا القانون بين العراقيين في اكتساب الجنسية، واعتمدت شهادة الجنسية درجتين لمنح الجنسية وهي (أ) لمن كان من رعايا الدولة العثمانية فيصبح عراقياً بالتأسيس، حتى إن لم يكن عربياً، أي سواء أكان تركياً أو ألبانياً أو كردياً أو غيره، و(ب) إذا كان من تبعية أخرى مثل ldquo;الإيرانيةrdquo; فهو يكتسب الجنسية العراقية حتى إن كان عربياً أصيلاً، فهو لا يُعتبر عراقياً، بل يكتسب الجنسية العراقية من الفئة (ب) على الرغم من كونه مولوداً في العراق، وكذلك أبوه وجده أحياناً، حتى لو كان قبل ولادة الدولة العراقية .
لقد جاءت نتائج هذا التمييز لاحقاً ببعض الممارسات في العهد الملكي، لاسيّما إزاء بعض الوظائف العامة والعليا، وإن كان على نحو محدود وغير ملحوظ، لكن تأثيراته السلبية جاءت لاحقاً بصدور القانون رقم 43 لسنة ،1963 الذي استند إلى القانون الأول ووضع شروطاً مشددة للحصول على الجنسية، وترافق ذلك مع حملات تهجير أولى في عام ،1963 وعمليات تهجير أكبر في عامي 1965 ،1966 ثم حملة واسعة شملت نحو سبعين ألفاً في 1969 ،1971 وتواصلت الحملة الكبيرة في عام 1975 لتشمل أعداداً كبيرة من الأكراد الفيلية بعد وصول اتفاقية 11 مارس/ آذار للحكم الذاتي عام ،1970 بين الحكومة العراقية والحركة الكردية إلى طريق مسدود، ولكن حملة التطهير الجماعي ونزع الجنسية كانت في ذروتها عام ،1980 أو عشية الحرب العراقية الإيرانية، حيث صدر القرار رقم 666 بتاريخ 7 مايو/أيار ،1980 عن مجلس قيادة الثورة القاضي بإسقاط الجنسية عن الذين يعتبرون من ldquo;أصول إيرانيةrdquo; أو بسبب عدم موالاتهم للحزب والثورة، وقد تمّ إلغاء هذا القرار في عام 2003 .
تركت تلك الإجراءات التعسفية، بما فيها نزع ملكية المهجرّين، ردود فعل طائفية تمّ توظيفها من جانب إيران سواء في الحرب أم في السلم، كما تمّ استثمارها سياسياً من جانب الأحزاب والقوى الشيعية، وانعكست تلك الإجراءات على الحساسيات الطائفية مجتمعياً، إضافة إلى مرافق الدولة، وهو الأمر الذي جرى استغلاله على أحسن وجه ما بعد الاحتلال، وخصوصاً بتشجيع من بول بريمر، مثلما يذكر في كتابه ldquo;عام قضيته في العراقrdquo;، وكانت معاهد ومراكز أبحاث ودراسات غربية تعمل على تكريس مفهوم الانقسام الطائفي في العراق منذ نحو ثلاثة عقود من الزمان .
الواقع الجديد الذي نشأ في العقود الثلاثة الماضية، لاسيّما بعد الاحتلال جعل العراق في مواجهة أشكال مختلفة من الطائفية السياسية، تارة باسم البحث عن الهوية، وأخرى بحجة رفع المظلومية والحيف، وثالثة باسم الأغلبية، ورابعة بقراءة ldquo;خاصةrdquo; للتاريخ، وخامسة بالسعي لإحياء الماضي، وهكذا دخل أمراء الطوائف في صراع محموم، لم ينفع معه وجود دستور يقرّ مبادئ المواطنة واحترام الحقوق والحريات، وإن احتوى على ألغام لا مجال لذكرها في هذا المقال يمكن أن تنفجر في أية لحظة .
وإذا كانت الهويات الفرعية تغتني وتتطور بالتفاعل والتواصل الإنساني مع الهويات الأخرى، سواء الهوية الوطنية العامة أو الهويّات الفرعية الأخرى، فإن الأساس في التعايش المشترك الإنساني هو المواطنة التي تتطلب مواطنين أحراراً، بحيث تكون مواطنتهم عابرة للطوائف والإثنيات والأديان والعشائر والجهويات، وفي إطار وحدة كيانية متعددة وموحدة في الآن، وهو الأمر الذي ظلّ غائباَ .
لا نتصوّر وجود حل سحري سريع للمشكلة الطائفية، سواء بإسقاط الرغبات، أو التبشير بالتمنيات، فالأمر يحتاج إلى عناء وبناء دستوري وقانوني ومجتمعي، ولاسيّما رفع درجة الوعي والثقافة الحقوقية، فضلاً عن علاقات متساوية ومتكافئة، تؤسس لمواطنة حرة .
ولعلّ الخطوة الأولى والأساسية تبدأ بإصدار قانون (سنّ تشريع) لتحريم الطائفية وتعزيز المواطنة، لاسيّما بتأكيد اعتبار الطائفية خطراً على المجتمع والدولة في آن، وهي جريمة كبرى تستحق أقسى العقوبات إذا ما اقترنت بالعنف واستخدام القوة . وسيكون وجود مثل هذا القانون مدخلاً لمنع استخدام المنابر الحكومية وغير الحكومية، السياسية والدينية والإعلامية والبرلمانية والاجتماعية والتعليمية والثقافية والرياضية لإثارة نعرات الكراهية والاستعلاء بتضخيم الذات، أو باستصغار شأن الآخرين والتمييز ضدهم أو تهميشهم أو إقصائهم .
إن وجود قانون يحرّم الطائفية ويعزز المواطنة سيكون ضداً نوعياً لا غنى عنه لمواجهة نزعات التمذهب والتمييز والتسيّد وادعاء الأفضليات والتشبث بتقسيمات ما قبل الدولة .