الخليج والمشهد العراقي الجديد
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
عبدالجليل زيد المرهون
بعد اتفاقهم على تشكيل حكومة شراكة وطنية جامعة، بدا العراقيون وقد قطعوا خطوة رئيسية على طريق بناء الدولة المستقرة، الحاضنة لكافة أبنائها.
وربما تكون هناك الكثير من التفاصيل التي يتباين حيالها الفرقاء المعنيون، لكن ليس هذا هو المهم، فالأمر الجوهري يتمثل في حقيقة أن مسيرة الوفاق الوطني قد رست أخيراً على بر الأمان.
ولقد مثل هذا التطوّر عامل اطمئنان لأبناء هذه المنطقة، الذين عاشوا حالة من الترقب والخشية، طيلة سبع سنوات عجاف، سيطر عليها الاحتراب والتقاتل الأهلي، بين أبناء الوطن الواحد.
وبطبيعة الحال، ثمة وجهات نظر مختلفة في الجزء الآخر من الخليج حيال العملية السياسية في العراق، إلا أنه يمكن الوقوف في المجمل على غالبية خليجية ترى في انخراط العراقيين في هذه العملية السياسية سبيلاً أمضى لأخذ بلاد الرافدين إلى حيث تطلعاتها في الاستقرار الأمني والاجتماعي؛ وحيث إن من هو في داخل القطار أكثر قدرة على التأثير في مسيرته ممن هو في خارجه. وهذه هي الحكمة التي يستند إليها دعاة الإصلاح السياسي في الدول المختلفة. ذلك أن المشاركة في الحياة السياسية لا تعني بالضرورة الرضا التام عنها، أو الإقرار بما يعتريها من شوائب وعيوب، لكنها على الرغم من ذلك خير من خيارات المقاطعة والعزلة. وخير أيضاً من الرهان على الخيارات التي من شأنها شرذمة المجتمع وتعطيل مؤسساته الدستورية.
وفي وطننا العربي الكثير من التجارب التي تؤكد هذه الحقيقة على نحو لا يقبل الشك، في مشرقه ومغربه، وبالطبع في خليجه أيضاً.
كذلك، ليس من الحكمة أن يتخلى المرء طواعية عن حقوقه لمجرد عدم رضاه عن الوضع القائم، أو خلفياته، أو صيرورته التاريخية.
وبالنسبة للعراق، ثمة إدراك متزايد بين الخليجيين بأن عواقب مقاطعة العملية السياسية قد تترجم نفسها في صورة شقاق وطني، يحمل بين طياته بذور فتنة طائفية، لا ريب أن الجميع معني بقطع دابرها. وهي فتنة يخشى الخليجيون تداعياتها بقدر خشية العراقيين لها، بل هم أشد خشية. ذلك أن الخليج لم يعد يحتمل المزيد من الشقاق الطائفي، الذي يمثل أسرع الطرق لتقويض أمنه ونسف تعايشه الأهلي.
على الساسة العراقيين أن يقاربوا على نحو متوازن قضايا المشاركة والتمثيل السياسي للمكونات والأطياف الوطنية المختلفة. وفي هذا السياق، يجب التشديد أيضاً على ضرورة حضور الأقليات المسيحية في التركيبة الحكومية، على نحو يتجاوز الطابع الرمزي أو الهامشي
وسواء من آمن بالعملية السياسية في العراق، ومن لم يؤمن بها، فإن تحويل الخلاف السياسي إلى استقطاب طائفي هو من المحاذير التي لا يجوز الوقوع فيها. ولا يجوز لأحد المراهنة على ذلك كسبيل لتحقيق مكاسب فئوية خاصة.
وفي هذا العام، جرت انتخابات السابع من آذار/ مارس النيابية على نحو حقق لكافة الأطراف ما تصبو إليه، أو قريباً من ذلك. ويعود هذا الأمر لإدراك العراقيين بضرورة الانخراط في العملية السياسية، وعدم الإصغاء للأصوات المراهنة على إدامة العنف وشلالات الدم في بلاد الرافدين.
وبعد هذا الانجاز الوطني، الذي لا غبار عليه، فإن العملية السياسية لابد أن تنطلق من مبدأ الشراكة الحقيقية في الوطن، والتقاسم العادل للسلطات.
وهنا، يثور سؤال جوهري، مفاده: هل يجب أن تكون الحكومة الجديدة في العراق انعكاساً حرفياً لخارطة القوى التي جاءت بها انتخابات السابع من آذار/ مارس، وشُكل على ضوئها البرلمان الجديد، بما هو سلطة تشريعية ورقابية؟
قد يكون هذا هو الذي حدث على نحو تقريبي بعد انتخابات العام 2005، والذي وجد إحدى خلفياته في مقاطعة طيف وطني لتلك الانتخابات، وللعملية السياسية التي بنيت عليها.
وقد يقول قائل إن عدم انعكاس نتائج الانتخابات على تشكيل الحكومة يمثل خرقاً للتقاليد والأعراف الديموقراطية. وهذا صحيح على نحو مجمل. بيد أن الصحيح أيضاً هو أن الديموقراطية ليست لباساً يباع على الشعوب، وعليها ارتداؤه.
فهناك خصوصيات يفرضها التكوين التاريخي للمجتمعات وطبيعة التقسيمات الرأسية السائدة فيها. وعندما يجري القفز على هذه الخصوصيات فإن الديموقراطية تفقد هدفها النهائي، وهو تحقيق العدالة.
ومن هنا، فإن على الساسة العراقيين أن يقاربوا على نحو متوازن قضايا المشاركة والتمثيل السياسي للمكونات والأطياف الوطنية المختلفة. وفي هذا السياق، يجب التشديد أيضاً على ضرورة حضور الأقليات المسيحية في التركيبة الحكومية، على نحو يتجاوز الطابع الرمزي أو الهامشي
وفي المجمل، يجب أن تكون الكفاءات الوطنية حاضرة في إدارة الحياة العامة، بمعزل عن انتماءاتها العرقية أو الدينية أو المذهبية.
ومن دون ذلك، فإن العراق لن يصل إلى هدفه المنشود في التنمية الشاملة، وتحقيق الاستقرار الاجتماعي والسياسي.
وعلى صعيد العلاقات الخليجية - العراقية، التي يجب أن نعود اليوم لمقاربتها في ضوء التطورات الايجابية المشجعة في بغداد، يجب الاعتراف بداية بأن هناك قدراً متزايداً من التحديات التي لا يصح التهوين من شأنها، سواء تلك المتعلقة بالحدود، أو الحقول النفطية المشتركة، أو الديون، أو الإرث القاسي لحروب الخليج الثلاث.
كما نواجه، في الوقت ذاته، جُدراً وحواجز نفسية تم تشييدها على نحو تعسفي ومفتعل. إنها جدرٌ وحواجز شيّدها دعاة التجزئة والخيارات الانعزالية. وأولئك العازفون على أنغام الطائفية، التي أضحت مهيمنة على عقولهم وسلوكهم، وباتوا لا يرون الحياة سوى من منظارها الدامس.
وعلى الرغم من ذلك، قد تكون اللحظة الراهنة مناسبة جيدة لإعادة التفكير في سبل تذليل العقبات، والتحديات الماثلة، أمام العلاقات الخليجية - العراقية، يجب أن تُشيّد استناداً إلى حقائق الجغرافيا والانتماء القومي، على ضوء حقيقة أن العراق جزء لا يتجزأ من هذا الخليج، وهو لبنة أساسية في بنائه الاجتماعي والحضاري.
ولابد بدايةً من وضع تصورات بعيدة المدى لمشاريع التعاون الاقتصادي والتجاري، والبرامج ذات الصلة ببناء الجسور بين هيئات المجتمع المدني.
ولعله من المفيد الانطلاق إلى ذلك عبر فرق عمل غير حكومية، تتولى وضع مرئيات، وتقديم توصيات، يتم تداولها في إطار الخبراء والباحثين، وتقدم بعد ذلك نتائجها إلى المعنيين بصنع القرار في كل دولة، من قبل مواطنيها الممثلين في هذه الفرق.
وفي العادة، فإن مراكز الأبحاث هي من تبدأ في التواصل فيما بينها والتنسيق لمثل هذه المهام.
وفي أوروبا، كان العقد التاسع من القرن العشرين ذا دلالة بالغة على هذا الصعيد؛ حيث شهد عدداً كبيراً من فرق العمل غير الحكومية، التي حملت على عاتقها مهمة إعادة بناء الروابط بين شرق القارة وغربها. وقد نجحت هذه الفرق في تحقيق ما أرادت؛ حيث جرى اقتراح الكثير من التصورات والآليات التي قادت في نهاية المطاف إلى تشكيل المشهد الأوروبي الراهن.
إن تجربتنا في هذا الخليج تدعونا لتأكيد خيار التعايش والتعاون، لأنه السبيل الوحيد لتحقيق الأمن والاستقرار الإقليمي.
ومن نافلة القول، أن ليس ثمة معنى للحديث عن أمن الخليج، في حال جرى تجاوز العراق، وتهميش دوره وموقعه الإقليمي.
إن أمن هذه المنطقة كلّ لا يتجزأ، وعلى دولها المضي سوية في خيار التعاون والتكامل، فهو الطريق الصحيح، بل الوحيد، لتحقيق أمن الخليج، وجعله حقيقة قائمة.