تحولات القلــــب والأطـــراف
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
حسن حنفي
تعود القدماء على استعمال صورة الجسد، القلب والأطراف في التعبير عن البنيات الحية والعلاقات العضوية بين الأجزاء. فالعالم جسد كبير. والجسد عالم صغير. بالجسد مركز وأطراف ودورات دموية وتنفسية، ووسائل سمعية وبصرية للإدراك، وقدرات حركية، وحالتا صحة ومرض، ودورة حياة وموت. وما يحدث في البدن يحدث في الأسرة والمجتمع، رب الأسرة وأعضاؤها، والسلطة والشعب، والإمام والأمة.
وقد تحول التصور نفسه إلى العلاقات الدولية في مراكز الثقل في التجمعات الإقليمية: ألمانيا مركز الثقل في أوروبا، الصين مركز الثقل في آسيا، أميركا مركز الثقل في العالم كله، ومصر مركز الثقل في الوطن العربي. وهذا ما سُمي في الفكر القومي "الدولة- القاعدة". وهو ليس تصوراً أيديولوجيّاً سياسيّاً بل هو واقع تاريخي، تعيشه المجتمعات، وتختبره الشعوب، كما يتضح في الجغرافيا، وما يسميه علماء السياسة الجغرافيا السياسية. وأكثر ما يتضح في علم الخرائط.
ففي الخرائط الصينية القديمة تبدو الصين وسط الخريطة، مركزاً للعالم. وهكذا كانت الصين حضاريّاً. شرقها المحيط الهادئ، وغربها آسيا. وفي مصر القديمة، كانت مصر مركزاً للعالم. حدودها فينيقيا في الشام وتجارة الأخشاب معها، والسودان في الجنوب، ومن بلاد النوبة جاءت الملكة حتشبسوت ذات الشعر المجعد. وكانت العاصمة طيبة في الجنوب. والحيثيون من الغرب، من ليبيا يغيرون على مصر، وادي النيل، الخضرة والماء بدلًا من جفاف الصحراء. واليونان في الشمال امتداد لحضارة مصر وليست فقط مهداً لحضارة اليونان. وقد كانت هناك حاميات مصرية على سواحل اليونان. كما كان هناك فلاسفة، أفلاطون، ورياضيون، فيثاغورس، ومؤرخون هيرودوت، زائرون لمصر لتلقي العلم والحضارة. وعندما انتقل مركز الثقل الحضاري أصبحت اليونان مركزاً للعالم عند "استرابون" الجغرافي. شرقها فارس في آسيا، وغربها روما في أوروبا، وجنوبها مصر في إفريقيا. مصر دائرتها الثقافية الأولى، فتحها الإسكندر. كما أن الهند ووسط آسيا دائرتها الثقافية الثانية التي وصل الإسكندر إلى قلبها، نموذجاً للفتح، وداعيّاً إلى الحضارة اليونانية، حضارة العقل والعلم والمدنية قبل الإسلام.
وفي الفتح الإسلامي امتد الإسلام إلى مصر. فأصبحت قاعدة لنشره في المغرب العربي حتى الأندلس. وكانت لمصر مكانة خاصة منذ ذكرها في القرآن الكريم (اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ). وفي الحديث "جندها خير أجناد الأرض، وشعبها مرابط إلى يوم القيامة". وللعرب عند الأقباط صلة رحم. وفي الخرائط الإسلامية مثل الإدريسي يبدو العالم الإسلامي وسط العالم، آسيا شرقه، والأطلسي غربه، وأوروبا شماله وإفريقيا جنوبه.
وفي مراحل غزو العالم الإسلامي كانت مصر تقود الدفاع عنه ضد الفرنجة من الغرب. وتدور معاركه بقيادة صلاح الدين من مصر في الشام أي "حطين"، وضد التتار من الشرق وكانت تدور أيضاً في الشام في "مرج دابق" بقيادة أمراء المماليك في مصر. تسقط بغداد تحت أقدام التتار القدماء أو الجدد، ولا تسقط القاهرة، قاهرة المعز. تتناقص الأطراف ويظل القلب ينبض ضخاً للدماء فيها منعاً لبترها.
وفي العصر الحديث أكد محمد علي مركزيتها، وإمكانية وراثتها للخلافة في إسطنبول. وعرف أنها قلب وأن محيطها أطراف، وهو القادم من الأطراف، من ألبانيا. توجه إلى الشام كامتداد طبيعي لمصر من الشمال ثم إلى السودان كامتداد طبيعي لمصر في الجنوب. ثم إلى الشرق، إلى شبه الجزيرة العربية. وقامت النهضة بهجرة الشوام إلى مصر، أعلام الأدب والصحافة والسياسة والفكر. ثم أتى الاستعمار الأوروبي الحديث ليرث الخلافة العثمانية، الرجل المريض، بحملة نابليون على مصر تحقيقاً لمشروع "ليبنتز" الذي قدمه إلى لويس الرابع عشر لغزو مصر لمن يريد أن يستولي على حلقة الاتصال الجوهرية بين الشرق والغرب. وكانت بريطانيا قبل ذلك بقرن قد قضت على إمبراطورية المغول في الهند، وكانت هولندا قد احتلت جنوب شرق آسيا وجنوب إفريقيا إبان المد الاستعماري الأول للالتفاف حول المحيطات لحصار إفريقيا من الغرب والشرق وآسيا من الجنوب الشرقي. وقادت مصر حركات التحرر الوطني في المغرب والشام وشبه الجزيرة العربية بقيادة عبدالناصر. وأصبحت مركز ثقل في العالم الإفريقي الآسيوي، منذ باندونج وبلجراد.
فمصر دولة بلا حدود بمعنى ما، حدودها في الشام امتدادها الطبيعي في الشمال، وفي السودان امتدادها الطبيعي في الجنوب، وفي المغرب العربي امتدادها الطبيعي من الغرب. حدودها إمكانياتها، ومعرفة قدرها وأثرها في محيطها، وطموحها، والحفاظ على عزتها وكرامتها، والحرص على القيام بدورها التاريخي. وفي الوقت نفسه الدفاع عن أمنها. فقد جاءتها الغزوات من الشرق من فارس أيام قمبيز، ومن الشمال الشرقي أيام الهكسوس، ومن الشمال الغربي في الاستعمار الغربي الحديث. أمنها ليس في عزلتها بل في امتدادها نحو حدودها الطبيعية في أراضٍ مفتوحة لا تعرف الحدود الجغرافية إلا ما ورثته من الاستعمار الحديث منذ هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى وبعد سقوط الخلافة.
والآن يكرر التاريخ نفسه. يُطعن القلب حتى يتوقف عن النبض ويظل ينزف دماً. ثم تجزأ الأطراف بعد توقف ضخ القلب الدم إليها، وضمه إلى تجمعات إقليمية أخرى بها مراكز جذب أقوى كما حدث في ضم الجمهوريات الإسلامية في أواسط آسيا إلى موسكو القيصرية أثناء ضعف الخلافة ثم سقوطها. فيتجزأ العراق إلى شمال كردي ووسط سني وجنوب شيعي! ويتجزأ اليمن إلى شمال وجنوب! ويتجزأ السودان إلى شمال وجنوب أيضاً، وينضم الجنوب إلى منظمة أفريقية لأواسط إفريقيا يتكلم الإنجليزية دون العربية، ورئيسه المرتقب من الآن يلبس القبعة بدلا من الزي السوداني الوطني، ويعبر عن نيته في الاعتراف بإسرائيل! ويتفتت الصومال بين فرق تدعي كلها تطبيق الشريعة. وتتعدد لهجاتها المحلية وتضيع اللغة العربية رمز الوحدة الوطنية. والدور قادم على المغرب العربي، بين الأمازيغ والعرب. والغرب مع قوى التجزئة والانفصال لأنه لا يسمح على حدوده الجنوبية أو الشرقية بتكوين تجمع إقليمي عربي أو إسلامي جديد بعد سقوط الخلافة في تركيا في 1923 ونهاية القومية العربية في مصر في سبتمبر 1970. والتشتت اللغوي بين الكردية والفارسية واللهجات الإفريقية والأمازيغية مقدمة للتشتت السياسي وبتر الأطراف عن الجسد.
وتنعزل مصر عن محيطها. وتتبنى إيديولوجية العزلة مثل فرنسا بعد هزيمة نابليون ونهاية أفكار الثورة الفرنسية وعودتها إلى حدودها الطبيعية ونظامها الملكي القديم. شعارها "مصر أولا"، مصر رجال الأعمال وليست مصر الوطن. حجتها الفقر بعد الإنفاق على الحروب. والفقر ليس نتيجة للحروب بل نتيجة للنهب الداخلي.
إن القلب لم يتوقف بعد عن النبض. وما زال قادراً على ضخ الدم الجديد في الأطراف.