جريدة الجرائد

تركيا المعاصرة: صراع الكمالية والمواريث

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

يوسف مكي

في السنوات الأخيرة، شهدت الساحة التركية حراكاً مكثفاً، باتجاه تغيير المعادلة السياسية التي سادت، منذ نهاية الحرب الكونية الأولى، وعبّرت عن نفسها بالانتقال من سلطة السلطان إلى الدولة الدستورية العلمانية التي تكفلت المؤسسة العسكرية برعايتها وحمايتها . لقد مثل التوجه الجديد للسياسة التركية، وبشكل خاص، منذ العدوان ldquo;الإسرائيليrdquo; الواسع الأخير على قطاع غزة، انعطافاً قوياً في الموقف التركي، باتجاه تعضيد العلاقات مع البلدان العربية والإسلامية، ومغادرة للتحالف الذي استمر أكثر من خمسة عقود بين تركيا والكيان الصهيوني .

الموضوع الذي يركز عليه هذا الحديث هو أسباب التحول في المزاج السياسي الشعبي، باتجاه العودة إلى الجذور . هل تعني التطورات الأخيرة، محاولة لترميم الكمالية أم أنها بداية نهايتها؟

في هذا السياق، نذكر أن تاريخ تركيا المعاصرة يعود إلى عام ،1923 حين أسس مصطفى كمال أتاتورك، الجمهورية . وكان ذلك تتويجاً للانقلاب السياسي الذي قادته حركة الاتحاد والترقي على السلطان عبدالحميد عام 1909 .

منذ ذلك الحين، اتجهت تركيا بسياساتها نحو تبني نظام أهم مرتكزاته الفصل بين الدين والدولة، والفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، والاحتكام إلى الدستور . وعلى صعيد السياسة الخارجية، اتجهت تركيا نحو إقامة علاقات قوية مع الغرب . ومنحها موقعها دوراً مركزياً أثناء الحرب الباردة بين الشرق والغرب، كونها تمثل الطرف الأعلى من القوس الذي يطبق على الاتحاد السوفييتي . لكن هذه الأهمية تراجعت إثر سقوط المنظومة الشيوعية .

لم تنعم تركيا المعاصرة بالأمن، فقد شهدت عدة انقلابات، وغيرت من أنظمتها السياسية، وعانت من عواصف وأزمات كثيرة . وكان في مقدمة الأزمات التي بقيت ضاغطة، ولاتزال على الأوضاع الداخلية، محاولة انفصال الأكراد المقيمين على امتداد الهضبة الجنوبية عن الدولة التركية . لقد مضى على بروز هذه المسألة قرابة تسعين عاماً، وتسببت في فقدان عشرات الألوف من الضحايا، وأفرغت الخزينة التركية من مدخراتها .

وقد أسهمت هذه الأزمة، مع عوامل أخرى، في تردي علاقة تركيا بأوروبا الغربية، وحرمانها من الالتحاق بالسوق الأوروبية المشتركة، والانضمام للاتحاد الأوروبي . لكن تركيا بقيت دائماً عضواً نشطاً في حلف الأطلسي، بزعامة واشنطن .

هناك أيضاً، الصراع بين القبارصة الأتراك والقبارصة اليونانيين، وقد تسبب في إحداث شروخ كبيرة في العلاقة بين تركيا واليونان، وقد تصاعد الصراع بين البلدين، بعد الاجتياح العسكري التركي لشمالي قبرص، وتهجير سكانه عام 1974 .

ورغم انفتاح تركيا على الغرب، فإن المشاعر الدينية، للمجتمع التركي، شهدت اتساعاً كبيراً، خاصة بعد اتخاذ الدول الغربية، مواقف سلبية من تركيا، بعد اجتياح جزيرة قبرص . وبرز ذلك في ردود فعل شعبية غاضبة، على الحصار الذي فرضته الإدارة الأمريكية على العراق، واستخدام قواعد حلف شمال الأطلسي بالأراضي التركية، لمهاجمة العراق . وقد ألهبت الاعتداءات الصهيونية المتكررة على الفلسطينيين، ومن الاحتلال الأمريكي لأفغانستان والعراق، مشاعر الغضب لدى الشعب التركي المسلم، وأسهمت في تصاعد دور الإسلام السياسي ووصوله، إلى الحكم في دورات انتخابية عديدة .

كانت أوضح هذه التطورات قد برزت في احتضان تركيا المتكرر لمؤتمر القدس، وعقده على أراضيها . وقد حضر اجتماعاته آلاف الأتراك، وشارك فيه مئات من المثقفين العرب وعدد كبير من مختلف البلدان الإسلامية . وبرز ذلك أيضاً، في الرعاية التركية لقوافل الحرية التي اتجهت إلى قطاع غزة قبل عدة شهور لكسر الحصار المفروض على القطاع، ما أدى إلى تدهور العلاقة بين تركيا وrdquo;إسرائيلrdquo;، التي بقيت قوية منذ اعترفت تركيا بها عام 1948م .

لقد بلغت العلاقة بين تركيا والكيان الصهيوني حد تمكين المقاتلات ldquo;الإسرائيليةrdquo; من الوصول إلى قواعد تركيا العسكرية، في مختلف المناطق . وقد جرى تجميد هذه الاتفاقية، بعد الهجوم الصهيوني على قوافل الحرية .

ماذا تعني هذه التطورات؟ هل هي تراجع عن السياسة التركية، التي ارتبطت ببروز الكمالية؟ أم أننا نمر بحقبة قصيرة متعدية في التاريخ التركي، تعود بعدها تركيا إلى سعيها الحثيث للالتحاق بالقارة الأوروبية؟

الإجابة عن هذه الأسئلة تطرح بحدة أسئلة أخرى، لا تقل وجاهة: هل فعلاً حسم الشعب التركي خياراته في السابق، في التوجه إلى الحضارة الغربية، بديلاً عن موروث السلطنة العثمانية، والحداثة بديلاً عن الأصالة؟

لعلنا نجادل في هذا السياق، أن نداءات العصرنة، بقيت مقتصرة في الأغلب على البناء الفوقي للدولة التركية، ولم تتعمم أفقياً لتشمل الطبقة الوسطى، حيث النخب الثقافية، المأخوذة بسحر الشرق، ومواريثه الفكرية والدينية . إنها لم تشمل أيضاً، قاع المجتمع حيث الأغلبية العظمى من شعب تركيا، تلتزم الدين الإسلامي الحنيف، عقيدة وأسلوب حياة .

لقد أدى ذلك إلى حالة ارتباك مستمرة، بين ما يتطلع إليه البناء الفوقي، من توجه نحو العصرنة، والبعد عن ثقافة الإسلام، واستبدال اللاتينية بالحروف العربية، وبين ما تلتزم به القواعد العريضة من شعب تركيا، تجاه الموروث الأصيل للإسلام . وربما لا نتجاوز الواقع حين نستنتج أن ما شهدته تركيا المعاصرة من توترات وعدم استقرار، وانقلابات عسكرية متكررة، وسقوط حكومات وبروز أخرى، وحل البرلمان، وتعليق للدستور، مرده الخلل في معادلة العصرنة والأصالة .

وقد رأينا ذلك يعبر عن ذاته، في اقتراب بعض الحكومات التركية من الدول العربية والإسلامية وابتعاد أخرى، عن ذلك، وتبنّيها لسياسات تجعلها تلتصق أكثر فأكثر بالغرب وبالكيان الصهيوني . هذه المراوحة هي تعبير عن صراع داخلي تركي بين النزعتين . وكانت المعادلة ولا تزال كما يلي: عندما يتمكن الكماليون من الوصول للسلطة، تبتعد تركيا عن محيطها العربي والإسلامي، وتتصاعد وتيرة العمل على الارتباط السياسي والجغرافي بالقارة الأوروبية . والعكس صحيح، فعندما يفشل الكماليون في الوصول للحكم، تقترب تركيا أكثر فأكثر من عمقها الديني والثقافي، وتكون أكثر ارتباطاً بالجنوب والشرق .

ذلك لا يعني أن الحكومات التركية، غير الكمالية، لم تكن حريصة على استمرار علاقتها بحلف الأطلسي، أو أنها ترفض وجود قواعد عسكرية أمريكية فوق أراضيها . لقد كانت تلك العلاقات، خلال الحرب الباردة، صمام أمان لحمايتها من احتمالات التدخل السوفييتي . على أن ذلك لم يكن وحده السبب في حرص الحكومات التركية المتعاقبة على استمرار علاقاتها الاستراتيجية بالولايات المتحدة الأمريكية وبأوروبا الغربية .

إن الحكومات التركية، على اختلاف توجهاتها السياسية، تدرك حجم التحديات التي تواجهها في الداخل، وفي محيطها الإقليمي . فهناك الأزمة الكردية، والأزمات الاقتصادية المستعصية . وهناك أيضاً اتهامات بخروقات مستمرة لحقوق الإنسان، واضطهاد للأقليات القومية والدينية . وكانت التقارير تنشر من وقت لآخر، من منظمات حقوقية مختلفة، مشيرة بأصابع الاتهام للحكومات التركية، وبشكل خاص ما يتعلق بموضوع معاملة السجناء السياسيين، وفي المقدمة منهم أعضاء الحزب الوطني الكردستاني، الذي يطالب بالانفصال، وإقامة دولة كردية .

وعلى الصعيد الإقليمي، أخذت الأزمة التاريخية بين الأرمن والأتراك، كثيراً من سمعة تركيا، فقد استمر الأرمن في توجيه اتهامات صريحة لها، بارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية، وعمليات إبادة وتهجير بحقهم . وصدرت عشرات الأفلام السينمائية والروايات والكتب التي تحكي قصة الإبادة . وشكلت القضية، حاجزاً نفسياً يحول دون تجاوز واقع الكراهية بين الشعبين الجارين . وهناك الصراع مع اليونان حول قضية قبرص، حيث يتقاسمون العيش في تلك الجزيرة، ويرى الأتراك في وجودهم بالجزيرة القبرصية عمقاً استراتيجياً مضافاً، ليسوا مستعدين للتخلي عنه . ولذلك دخلوا في حروب ومواجهات إلى جانب القبارصة الأتراك . وتعرضت علاقاتهم مع اليونان لتوترات وصدامات متكررة، بسبب من هذه الأزمة .

ما هي انعكاسات هذه الأحداث على التطورات الأخيرة بالمسرح السياسي التركي؟ سؤال سيكون محور مناقشتنا في الحديث المقبل بإذن الله تعالى .



التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف