ويكيليكس: الإنترنت لم يعد عالماً افتراضياً
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
عبدالله بن بجاد العتيبي
ويكيليكس الموقع الإنترنتي الذي دخل على المشهد السياسي والإعلامي العالمي بكلّ قوةٍ، غيّر وسيغيّر كثيراً في نظرتنا للإنترنت، الذي كنّا نصطلح على تسميته بالعالم الافتراضي، لقد دخل هذا العالم الافتراضي على العالم الواقعي وغيّره وتحكّم في أولوياته وسياساته.
سياسياً، استطاع هذا الموقع التأثير على صنّاع القرار فضلاً عن غيرهم، وأجبرهم على الدخول في حالةٍ من الترقّب المشوب بالحذر -كما يقال- فلا أحد يعلم ماذا سيخرج من قمقم ويكيليكس الذي أصبح مثل قبعة الساحر، كل شيء وارد أن يخرج منها، فمرةً حمامة ومرة أرنب وأخرى غراب! حتى ليصدق على بعض الدبلوماسيين قول الشاعر:
لعمري لقد طفت المعاهد كلّها/ وقلّبت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كفّ حائرٍ/ على ذقنٍ أو قارعاً سنّ نادم
ومما يزيد من تأكيد اختراق "ويكيليكس" القوي لعالم السياسة في الواقع تعليقات كبار المسؤولين في العالم، سواءً تلك المحذّرة التي أطلقها المسؤولون الأميركيون، أم المترقبة التي تشمل الكثيرين حول العالم أم المؤيدة كما صرّح بذلك الرئيس البرازيلي ورئيس الورزاء الروسي اللذان أبديا دعمهما لأسانج مؤسس "ويكيليكس"، بحسب الـ"بي. بي. سي" البريطانية.
إعلامياً، استطاع الموقع التأثير بقوةٍ وفعاليةٍ، فقد نقل مسار الثقة بالمعلومة من الإعلام القديم إلى الإعلام الجديد، وصارت كبريات الصحف العالمية مثل الجارديان البريطانية -التي سرّبت جميع الوثائق لنيويورك تايمز الأميركية- واللوموند الفرنسية، ودير شبيجل الألمانية، و"إل بايس" الإسبانية، عالةً على موقعٍ إنترنتي لم يكن يحظى بمثل هذا الاهتمام من قبل، نعم، لم يزل "ويكيليكس" حالةً شبه استثنائية في الإنترنت، ولكنّه مؤهل وبقوةٍ أن يتطوّر لمواقع مشابهةٍ له، وربما متفرعةٍ عنه، بحيث ينجرف الكثيرون ممن يملكون المعلومة في أي بلد في العالم إلى نشرها على الإنترنت، ليلد "ويكيليكس" العالمي أبناء مناطقيين ومحليين في كل مكان.
المؤسسون في العالم الافتراضي الإنترنت، حظي أكثرهم بميزاتٍ ونجاحاتٍ كبرى، من مؤسس مايكروسوفت، ومؤسس "ياهو"، إلى مؤسس "يوتيوب"، و"جوجل"، وصولاً لمؤسس "فيس بوك" "تويتر"، كانوا جميعاً مبدعين وحظوا بتقديرٍ كاملٍ لجهودهم، فقد انخرط الملايين في مواقعهم وتفاعلوا معها، وساهموا في تطويرها، كما حظوا بالكثير من العوائد المادية والمعنوية، ولكنّ تعيس الحظّ مؤسس "ويكيليكس" فلم يحظ إلا بالسجن! والسجن الانفرادي أيضاً، وذلك "حرصاً على سلامته" كما صرّح المسؤولون في سجن "واندسوورث"، الذي يعتقل أسانج مؤسس "ويكيليكس"!
فهل يمكن أن نستعير هنا كلمة بن جوريون عندما حدثت أول جريمة سطوٍ في إسرائيل وقال حينها: الآن أصبحنا دولةً! فهل يصحّ أن نقول إن مواقع الإنترنت العملاقة قد أصبحت دولاً ضخمةً بكل المقاييس، وأن "ويكيليكس" يعتبر قفزةً في الظلام!
كلّ هذا الضجيج والترقب على مستوى العالم تمّ ووثائق "ويكيليكس" لم تزل في بدايتها، فلم ينشر منها بعد إلا أقلّ القليل، بضعة آلافٍ من أكثر من ربع مليون وثيقةٍ، ومع هذا فقد تحوّلت كثير من دول العالم إلى آلات نشرٍ وترتيبٍ وتبويب، أو آلات ترجمةٍ سريعةٍ ومتخصصةٍ، تترجم كل ما يصدر عن الموقع أوّلاً بأوّل، وربما تبادل بعضها الخبرات والاختصاصات أملاً في تفادي الكثير من المشاكل والبيروقراطيات المستعصية، فرق تشكّلت ومجالس متخصصة، ونحوها كثير، كلّ هذا بغرض السيطرة على هذا السيل المنهمر، وتفادي أكبر قدر ممكن من الأضرار.
وثائق "ويكيليكس" شاملة شمول الديلوماسية واهتماماتها، من الشأن السياسي إلى الشأن الثقافي، ومن الاجتماعي إلى الاقتصادي، ومن الإعلامي إلى الرياضي، وغيرها كثير، وهذا الشمول مع صراحة البرقيات ينذر بتغيرات مهمة في تصوّرات العالم لبعضه البعض، وعلاقاته ووشائجه على كافة المستويات.
لقد وفّر العالم الافتراضي المعلومة للجميع، وتسابقت مواقعه في التخصص في شتى الموضوعات، وتسهيل الوصول للمعلومة في كافة التخصصات، وبشتى الأشكال، تاريخياً وثقافياً واجتماعياً، فصار بقدرة الباحث المتخصص الوصول لكمٍ كبيرٍ من المعلومات، وتبقى له قدرته على ربطها والخروج منها بفكرةٍ تؤيد رأيه وتؤكده، وهو ما درجت عليه الكثير من المواقع السابقة التي تقدم خدماتها للكافة، ولكنّ "ويكيليكس" صنع الفرق، فهو لم يكتف بالمعلومات المتاحة فقط، ولكنّه دخل عشّ الدبابير وأخرج المخفي وأفشى الأسرار، لقد تمكّنت الدبلوماسية كوسيلة تواصلٍ بين البشر لقرون طويلة أن تحتفظ بأسرارها لنفسها، لكنّ "ويكيليكس" قلب الآية، وبثّ كل شيء تقريباً، وعمد إلى المعلومات التي كانت في السابق بيد فئةٍ من الناس مدرّبة ومتخصصةٍ، مسؤولة ومؤتمنة، فجعلها متاحةً للكافة وتحت تصرّفهم بأيسر سبيل فلا يحول بينهم وبينها إلا كبسة زر واحدة.
الحياة بلا أسرارٍ ليست حياةً، والإنسان دون أسرارٍ ليس إنساناً، فلكلٍ منّا كبر أم صغر أسراره الخاصة، التي تنطلق من طبيعة إيمانه الديني والسياسي لتصل لعاداته الشخصية وطريقة عيشه، وكذلك علاقاته الاجتماعية، واستثماراته المالية، وأوضاعه بشكلٍ عامٍ، وحين تختفي الأسرار ويصبح الكل مكشوفاً للكل يضطرب ميزان الإنسانية نفسه، وتختل علاقات البشر ببعضهم، قبل أن تختل كياناتهم الممثلة لهم من دول ومجتمعات ونحوها، ومن هنا تأتي خطورة ما أقدم عليه "ويكيليكس" من نشر هذه الوثائق، ويبقى السؤال الأخلاقي عن هذا الفعل مطروحاً وبقوةٍ على ساحة الجدل الثقافي الضخم الذي أثاره "ويكيليكس" بنشره لهذه الوثائق.
لدى كل إنسان رؤية لا يريد نشرها، وقناعة لا يبتغي بثها، وشأن لم تكتمل فيه رؤيته بعد، ولو عبّر عن كل هذا في آنٍ واحدٍ لأصبح مختلاً يتناقض بين عشية وضحاها، ولهذا فالوضع الطبيعي للبشر هو أنّ يبقى لهوى النفوس سريرة لا تعلم، يبقي عليها البشر حتى تنضج أو حتى يجيء وقتها، أو ربما يحتفظون بها للأبد.
أمر آخر، هو أنّه إذا صحّ المثل الذي يقول نصف الحقيقة كذبة كاملة، فإن ما ينشره "ويكيليكس" من وثائق صحيحة وثابتة، ولكنّنا لا نعرف السياق الذي وردت فيه، لا نعرف ما قبلها وما بعدها من الوثائق، ولا نعرف كانت ردّاً على سؤالٍ أم ابتداء لموضوعٍ، ولا ندري هل كُتبت الوثيقة في حال غضبٍ أم رضا، اتفاق أم اختلاف، وكلّ هذه تؤثر على قوة أو ضعف مضمون الوثيقة نفسه.
على الرغم من كل هذه التساؤلات المشروعة والتحفظات العلمية والأخلاقية فإن الموقع على الأرجح سيستمر طويلاً في إثارة الجدل، وسيكشف الكثير من المعلومات المفيدة والنافعة لكل باحثٍ عن الحقيقة ولكثيرٍ من المتخصصين في الشؤون السياسية والثقافية والعسكرية والأمنية، والشؤون العامة الأخرى، كما سيكشف معلوماتٍ تضرّ بدولٍ ومجتمعاتٍ وأفرادٍ ومؤسساتٍ، وسيكون للزمن الحكم الأمثل عند اكتمال المشهد ونهاية القصة التي ابتدأت للتوّ.