العرب ما بعد انفصال جنوب السودان
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
السيد ولد أباه
ماذا لو انفصل جنوب السودان عن دولة السودان المركزية؟ لم يعد السيناريو مجرد احتمال نظري، بل أصبح مشهداً محققاً، أقر بحتميته الرئيس السوداني نفسه الذي ذهب فيه إلى مطالبة السودانيين بالاستعداد لهذا الخيار المتوقع.
ولا شك أن الحدث يستدعي الاهتمام الواسع من عدة مناح، أبرزها كونها سابقة في المنطقة العربية، التي تضم عدة بلدان لها تركيبة إثنية ودينية مركبة، قد تكون بؤرة لنزعات انفصالية.
هل تكون الحالة سودانية نذير مشهد التفكك العربي وقيام الدويلات العرقية والطائفية، وهو المشهد الذي تحدث عنه الكثيرون منذ اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في سبعينيات القرن الماضي؟
لهذا المشهد خارج الساحة السودانية شواهد قائمة، أبرزها: حالة الفتنة المحتدمة في اليمن، والصراع متعدد الأوجه في العراق، حيث أصبح الشمال الكردي مستقلًا عملياً عن المركز، والحرب الأهلية المشتعلة منذ عقدين في الصومال المتفكك فعلياً.
وتذهب بعض التحليلات السياسية الشائعة في الأدبيات العربية إلى أن هذا السيناريو يفسر بعوامل موضوعية، تتمحور حول منطلقين:
أولهما: اعتبار الدولة الوطنية المستقلة في المجال العربي دولة مصطنعة في الغالب، لا تستند لرصيد تاريخي، وإنما هي حصيلة مسار اندماجي قهري، وأثر لمخطط استعماري عشوائي. ولذا من الطبيعي أن تنهار وتتفكك.
ثانيهما: تأكيد علاقة التلازم بين التجانس الضروري للكيان المجتمعي وبنية الدولة، بحيث تكون البلدان ذات التركيبة الديمغرافية المركبة أقل تماسكاً وأكثر هشاشة من البلدان منسجمة النسيج المجتمعي. وقد وضع مركز ابن خلدون الذي يديره الكاتب المصري "سعد الدين إبراهيم" مقاييس تصنيفية لحالة الانسجام والتجانس في الدول العربية في تقاريره الشهيرة والمثيرة حول "وضع الأقليات في العالم العربي". وفق هذه المقاييس، تتأرجح أغلب البلدان العربية بين خانتي الدول الأقل تجانساً أو المتوسطة التجانس، مما يفضي بها إلى مخاطر الانقسام والتفكك والصراع الأهلي.
إدراكا لهذه الحقائق، برز إجماع دولي على فرض احترام الحدود الموروثة عن الاستعمار، أي الحفاظ على الدول الوطنية في شكلها الحالي لحماية الاستقرار العالمي. إنه المبدأ الذي كرسته اتفاقية إنشاء منظمة الوحدة الأفريقية عام 1963، معطية الأولوية لسيادة الدولة على مبدأ حق تقرير مصير المجموعات والأقليات الساعية للاستقلال والانفصال.
وهكذا لم تنجح أي من الدويلات التي أعلنت استقلالها الأحادي في مناطق أفريقية عديدة في الحصول على اعتراف دولي، كما هو شأن دولة "الصومال لاند".
وبقيت حالة إريتريا استثناء فريداً له خصوصيته المعروفة، باعتبار أن الهيمنة الإثيوبية كانت نمطاً من الاستعمار التقليدي أكثر من كونها داخلة في منطق الكيانات الموروثة عن الاستعمار.
ولقد طرحت السابقة الإريترية تحديات جديدة في منطقة القرن الأفريقي التي ينتمي إليها السودان الذي عرف منذ استقلاله حربا ًأهلية (عرقية ودينية) طويلة. ولم تكن حركة تحرير جنوب السودان التي تزعمها "جون قرنق" حركة انفصالية في بداياتها، رغم خطابها الثوري الراديكالي ومطالبها القومية الصريحة، وإنما كانت أشبه بالنزعات اليسارية المسلحة التي عمت بلدانا كبيرة في المنطقة، كما هو شأن أنجولا والكونجو (زائير)...
إلا أن التيار الانفصالي انتهى إلى السيطرة على الحركة وعلى سكان الجنوب السوداني، بعد تجربة سنوات خمس من التعايش الذي قننته اتفاقيات نيفاشا.
والسؤال المطروح هنا هو هل سيؤدي انفصال جنوب السودان إلى تشجيع انفصال مناطق أخرى من هذه البلاد الشاسعة في مقدمتها إقليم دارفور، وهل سيفضي في ما وراء ذلك إلى تشجيع الحركات الانفصالية داخل المجال العربي الأوسع؟
بخصوص الشق الأول من السؤال، لا مندوحة من الإقرار أن الاحتمال مطروح، فتداعيات أزمة دارفور التي تم تدويلها بصدور مذكرة اعتقال الرئيس البشير لم تزل قائمة متفاقمة، وجهود تسويتها لم تنفك متعثرة.
إلا أن الحالة العربية العامة لا تنطبق عليها المقاييس السودانية. صحيح أن العديد من البلدان العربية تضم مكونات عرقية ودينية تشكل أحياناً بؤرة توتر اجتماعي وسياسي، لكن باستثناء الوضع الكردي في العراق لا نجد أثراً لحركات انفصالية حقيقية، مع العلم أن التنظيمات الكردية نفسها تنفي ميولها الانفصالية وتدعو للحفاظ على وحدة الجسم العراقي، ولو في إطار نظام فيدرالي مرن يؤمن للإقليم الكردي شبه استقلال فعلي.
وإذا كانت تظهر أحياناً في اليمن نزعات انفصالية، بلغت أوجها خلال الصراع الأهلي العنيف الذي احتدم عام 1994، إلا أن مشهد العودة للانقسام بين الشمال والجنوب ليس وارداً. والمثير في الموضوع اليمني، هو أن البلد يصنف من بين الدول الأكثر انسجاماً في تركيبته القومية والدينية (لا تشكل الطائفة الزيدية فئة متميزة في نسيجها العقدي والمذهبي عن المجموعة السُنية). وتلك هي حال الصومال أيضاً الذي هو من أكثر البلدان تجانساً، على الرغم من استفحال وطول أزمته الداخلية.
والواقع أن الاستناد إلى" اصطناعية "، وتنوع البلدان ليس مقنعاً في توقع انهيارها وتفككها. فأغلب بلدان العالم تدخل في هذا التصنيف، بما فيها الدول الأكثر عراقة واستقرارا. بل إن البلدان الأوروبية الكبرى التي قامت فيها كيانات قومية عتيدة في القرن التاسع عاشر كما هو شأن فرنسا وبريطانيا وإسبانيا... لم تكن منسجمة ومتجانسة المكونات الإثنية والدينية. وكما يبين مؤرخ فرنسا الكبير "فرناند برودل" فإن الدولة القومية في فرنسا، هي التي أنشأت القاعدة القومية للكيان الوطني ولم تكن تجسيداً لهذه القاعدة أو تعبيراً عنها كما يظن. ففي نهاية القرن التاسع عشر كان المتحدثون بالفرنسية لا يزالون أقلية في هذا البلد الذي صدر نموذج الدولة القومية المركزية. والقاعدة قابلة للتعميم في جل بلدان أوروبا شرقاً وغرباً.
فالدولة العربية الحديثة على جدتها أصبح لها إرثها التاريخي وتجربتها الخصوصية، على الرغم من الإشكالات، والتحديات الكثيرة التي تعاني منها. وكما أن السودان لم يكن نموذجاً للاحتذاء، فإنه ليس مصدر خطر في راهن الحال.