جريدة الجرائد

الاستيطان ...وأوراق التوت

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

أحمد يوسف أحمد


في هدوء تام يتسق والجمود الراهن في عملية التسوية السلمية للمسار الفلسطيني- الإسرائيلي أعلنت الإدارة الأميركية قرارها بأن "تمديد الاستيطان لن يوفر في الوقت الراهن الأساس الأفضل لاستئناف المفاوضات المباشرة" بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وأن الانخراط سيستمر في الأيام والأسابيع المقبلة في القضايا "الجوهرية" مع الجانبين، ومع الدول العربية وباقي الأطراف الدولية. وأعلن الناطق باسم الخارجية الأميركية أن هذا التخلي عن شرط وقف الاستيطان كمتطلب مسبق لاستئناف المفاوضات المباشرة هو "تحول في النهج"، وليس تخليّاً عن الالتزام بعملية السلام.

من ناحية المضمون ليس من المفترض أن يمثل هذا القرار الأميركي مفاجأة، لأنه يأتي ضمن نموذج عام للسلوك الأميركي تجاه إسرائيل امتد عبر العقود. وقد نذكُر مبادرة ريجان في1982، التي كان من شأنها إن نفذت أن تؤدي إلى الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي الفلسطينية المحتلة بعد عام 1967 في إطار ما كان يعرف بـ"المملكة المتحدة" أي في إطار عودة الضفة الغربية إلى الأردن، وقد نذكُر أيضاً خريطة الطريق 2003 التي حددت عام 2005 لتأسيس الدولة الفلسطينية، وتضمنت خطوات محددة للوصول إلى هذا الهدف. والأمثلة كثيرة لا يتسع لها المكان بما يؤكد أننا إزاء "نموذج" للسياسة الأميركية تجاه إسرائيل ولسنا بصدد حادث منفرد. وربما يكون وجه المفاجأة الوحيد في القرار الأميركي الأخير هو صراحته، فقد تعودنا على أن "تذوي" المبادرات الأميركية التي لا ترضى عنها إسرائيل وتتلاشى تدريجيّاً حتى تصبح جزءاً من تاريخ مضى وليس من حاضر حاولت أن تشارك في صنعه.

يستطيع المرء بعد ذلك أن يلحظ أن بقية خطوات "اللعبة" تمضي في هدوء. وأن كل طرف فيها يقوم بدوره المعروف سلفاً، فإسرائيل أولاً لا تخفي ارتياحها، فهي تثبت مجدداً قدرتها على التصدي لأية رؤية أميركية تخالف رؤيتها، والجانب العربي عامة والفلسطيني خاصة لا يبدو ملتاعاً مما وقع، وقد نذكر أن آخر إبداعات الموقف العربي في هذا الصدد تمثل في إعطاء "مهلة زمنية" للإدارة الأميركية كي تتوصل إلى حل لعقبة إصرار إسرائيل على المضي قدماً في لعبة الاستيطان، وكلاهما -أي الجانبان العربي والفلسطيني- يبدو هادئاً للغاية وهو يتحدث عن القرار الأميركي. ويقرر الجانب الفلسطيني أن يوفد الموفدين إلى واشنطن للوقوف على حقيقة ما جرى، وكأننا بحاجة إلى من يحدثنا عن ذلك، ويعلن تمسكه بشرط وقف الاستيطان للعودة إلى المفاوضات المباشرة، ولا بأس من أن يبدي الاتحاد الأوروبي "الأسف" لعدم استجابة إسرائيل للمطلب الأميركي، وهكذا تمضي اللعبة وفق قواعدها المحددة دون أدنى صخب أو ضجيج.

لا تبدو التطورات السابقة مدعاة للأسف. فمن يراجع الضمانات والإغراءات التي عرضتها الإدارة الأميركية على إسرائيل وهي تطلب منها الانصياع لتمديد تجميد الاستيطان يجد أنها بلغت حدّاً من التدليل يثق المرء معه في أن مضي عملية التسوية على هذا النحو كان من شأنه أن يجعل العرب والفلسطينيين عند التوصل إلى تسوية نهائية -إن جاءت- في وضع أسوأ بكثير مما هم عليه الآن، علماً بأن إسرائيل قد رفضت هذه الضمانات والإغراءات، ولو كان شرطاً واحداً من شروط العودة للمفاوضات يستدعي كل هذه التنازلات الأميركية فما بالنا بالضمانات التي سوف يتعين على الإدارة الأميركية أن توفرها لإسرائيل حال قبولها تسوية نهائية؟

ونأتي بعد ذلك إلى حديث البدائل، ومن المثير أن تحدي البدائل لا يواجه العرب والفلسطينيين وحدهم، وإنما يواجه الأميركيين أيضاً، لأنهم بدورهم فشلوا في مسعاهم الخاص باستئناف المفاوضات المباشرة الفلسطينية- الإسرائيلية. ويبدو المشهد الأميركي طريفاً إلى حد بعيد كمن ضل طريقه فأخذ يسلك دروباً فرعية عله يخرج من حالة التيه فإذا به يعود مرة أخرى إلى حيث بدأ. هناك حديث أولاً عن العودة إلى المفاوضات غير المباشرة أو "المفاوضات التقريبية"، وقد نذكر أنه من هنا تحديداً بدأنا، وأنه قد قيل آنذاك إن هذه المفاوضات سوف تمهد الطريق بإنجازاتها للمفاوضات المباشرة، ثم جاء علينا زمان قال الأميركيون فيه ووافقهم العرب والفلسطينيون: لا يهم فلننتقل إلى المفاوضات المباشرة حتى دون أدنى إنجاز على صعيد المفاوضات التقريبية، ففعلنا لكي نصل إلى انهيار سريع لهذه المفاوضات نتيجة التعنت الإسرائيلي، وها هم الأميركيون اليوم يرون أحد مخارج الأزمة الراهنة في العودة إلى المفاوضات التقريبية، فأي استخفاف بنا وبأنفسهم؟

وهناك من يتحدث في الإدارة الأميركية عن "مفاوضات موازية" وهو ما يذكرنا بالولع الأميركي بصك المصطلحات، وليست خريطة الطريق ببعيدة، ومن شأن هذه "المفاوضات الموازية" أن تقتحم قضايا الوضع النهائي مباشرة. ولا يدري المرء أولاً ما هو الذي "توازيه" تلك المفاوضات المقترحة، فلا شيء يجري حتى نأتي بما يوازيه، ثم إن الأمر يبدو وكأن العقدة في تسمية المفاوضات فيما أنها -أي العقدة- في التعنت الإسرائيلي. وهناك كذلك من يتحدثون عن عودة ذلك الرجل الطيب دمث الخلق جورج ميتشل إلى نشاطه الذي بدأ في عهد الإدارة الأميركية السابقة دون جدوى، فما الجديد الذي يجعله قادراً على الإنجاز في هذه الظروف المعقدة؟

وهناك ثالثاً من يتحدث عن إلقاء الرئيس الأميركي بثقله من خلف العملية التفاوضية، ويا له من ثقل! يخف يوماً بعد يوم كلما اقتربنا من نهاية مدته الرئاسية الأولى التي ستحل قبل الوصول إلى تسوية بطبيعة الحال، فعن أي ثقل يتحدثون؟ ويعزز كل ما سبق القول إن أحد المخارج الأميركية من الأزمة قد يكون بالاكتفاء بإدارتها لإعطاء الوهم لمن يريد وهماً بأن ثمة طعاماً في الإناء ينتظر نضجه بينما لا يحوي الإناء سوى حجارة في ماء يغلي.

ولا يقل حديث البدائل العربية والفلسطينية طرافة عن حديث البدائل الأميركية، إذ لا نملك في هذا الصدد سوى حديث عن اللجوء إلى مجلس الأمن (أي العودة إلى المأزق الأميركي الذي لن تسمح معه الإدارة الأميركية بصدور أي قرار عن المجلس يغضب إسرائيل) أو إلى الجمعية العامة (حيث الآفاق واسعة لاتخاذ قرار يرضي العرب والفلسطينيين) لكنه سوف يكون قراراً بلا أنياب كسلفه رقم 242 الصادر عن مجلس الأمن منذ أكثر من أربعين عاماً، أو إلى اللجنة الرباعية (حيث المواقف تتطور ببطء إلى الأفضل في إطار من الوداعة الكاملة تجاه إسرائيل). ولكن الطريف في هذه البدائل هو حرص الجانب الفلسطيني على أن يؤكد أنه لن يلجأ إليها دفعة واحدة (خوفاً من فرط تأثيرها؟) وإنما سوف يستنفد كل بديل قبل أن يلجأ إلى الآخر، مع أن كافة البدائل دون استثناء قد شبعت عجزاً أو موتاً.

جميل أن يتمسك الفلسطينيون على رغم كل الصعاب بموقفهم الرافض للتفاوض ما لم تستمر إسرائيل في تجميد الاستيطان، لكن سيئ للغاية ألا يفعلوا شيئاً سوى هذا التمسك، لأن معنى هذا أن إسرائيل ماضية في الاستيطان دون أدنى التزام عليها. والمطلوب إذن هو فعل فلسطيني مؤثر يغير قواعد اللعبة التي لا تبدو قابلة للتغيير، ومن ذلك انتظارنا لقرار لجنة متابعة المبادرة العربية التي قطعت علاقتها منذ زمن بهذه المبادرة، وإنما هي تكتفي بردود أفعال نمطية لما يجري في الساحات الفلسطينية والعربية والإقليمية والعالمية، أو هي بعبارة أخرى تقوم بدورها المرسوم في هذه اللعبة التي باتت شديدة الإملال.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف