جريدة الجرائد

وماذا عن «ويكيليكسنا»؟

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

مشاري الذايدي

أكثر ما يثير العجب في ردة الفعل الإعلامية العربية على وثائق "ويكيليكس"، بالنسبة لي، هو هذا المزيج من المشاعر المضطربة تجاهها. من جهة هناك فرح وتلذذ بحالة "الفضح" وكشف الأحاديث التي يريد أهل القرار والحكم في المنطقة العربية حجبها عن "العامة". ومن جهة هناك، بعد ذهاب حالة التلذذ هذه، حالة من التشويش في تحديد الدوافع الحقيقية وراء هذه التسريبات الحساسة للملأ، على يد رجل أسترالي غامض ومغامر!

معقول أميركا، بجلالة قدرها وهيمنتها على معلومات العالم، وأقمارها الصناعية ومحطات تجسسها الدولية، وتقنياتها، التي نعرف ولا نعرف، خصوصا أن الإنترنت نفسه ولد عندها.. معقول أنها تخدع و"تؤخذ على قفاها" على يد "هاكرز" وقراصنة إنترنت؟!

هنا اشتغل الشك الإسلامي والعربي، ومعه من معه من الشاكين في العالم، وضرب أخماسا بأسداس، وقال من قال: لا يوجد شيء متروك للصدفة في أميركا، ولعبة التسريبات معروفة بين دوائر القرار والنفوذ في واشنطن، وبين الإعلام، وهذه ليست تسريبات فوضوية، بل مقصودة ومخطط لها سلفا، في تصور كلي الحضور والتيقظ عن رجالات السياسة والنفوذ والحكم في أميركا.

ومن قائل: أين إسرائيل من هذه الوثائق؟ لماذا أهملت ولم يرد ذكرها؟! إذن العملية مقصودة لشيء ما! (هل فعلا لم تذكر إسرائيل في وثائق "ويكيليكس" الحالية، أو لن تذكر في التالية؟!).

حسنا ما هذا "الشيء الما"؟! قال من قال: هو ترسيخ العداوة بين العرب وإيران، بالذات عرب الخليج، عبر نشر المشاعر الحقيقية التي تكنها دول الخليج وكثير من الدول العربية تجاه نظام الدولة الخمينية، من أجل كشف الأوراق كلها وجعل الصراع على المكشوف.

لكن هذه ليست أول وثائق يسربها موقع "ويكيليكس"، فقد سبق له أن سرب وثائق تدين أميركا والقوات الأجنبية في العراق وأفغانستان، ومعها حكومتا كرزاي والمالكي في كابل وبغداد، كما سبق لهذا الموقع أن سرب وثائق تفضح أعضاء الحزب اليميني المتطرف في بريطانيا، وعليه فإن هذه التسريبات الأخيرة حول الشرق الأوسط تأتي في سياق متصل لهذا النوع من النشاط والثقافة "الإنترنتية" العولمية، وهي نتاج طبيعي لتوسع رغبة "العامة" في مشاركة المعلومات للجميع.

في ظني أن الأمر يتجاوز التفسير السياسي "التقليدي" حول نظرية التسريبات المعتادة قبل أن يوجد كائن حي ووسيط هائل اسمه "ثورة المعلومات" وفقدان حكومات العالم الكثير من قدراتها في السيطرة على حركة المعلومات وسريتها.

الشكوى من انتهاك الإنترنت لكثير من الحواجز والسدود سواء الحكومية أو الدينية أو الاجتماعية ليست شكوى حديثة ولدت فقط مع تسريبات "ويكيليكس"، بل تزامنت مع ولادة الإنترنت ووسائط الاتصال الحديثة نفسها.

الآن، حقا، بدأنا نستوعب معنى تعبير "ثورة" المعلومات، بعد أن كانت مجرد تعبير شعري مبالغ فيه.

على كل حال، التسريبات لم تنتهِ بعد، ولم يظهر منها إلا القليل، والباقي أكثر وربما أخطر. لننتظر، فربما تغير التصور بعد اكتمال الصورة.

ما يهم المقال هنا هو هذا الفرح العربي أو اللهفة على وثائق "ويكيليكس" حول الشرق الأوسط، مع أن جزءا كبيرا منها، كما قال بعض المحللين العرب، معروف بشكل متواطأ عليه لدى الجمهور العربي، فلا أحد يجهل موقف السعودية ومصر وقطر وسورية وإيران ونوري المالكي وحزب الدعوة وحماس... إلخ، الخطوط العامة تقريبا معروفة، تبقى التفاصيل، وربما هذه هي الإضافة الكبرى، حتى الآن، لما فعله المغامر الأسترالي ورفاقه.

هذه اللهفة العربية العامة، توحي بوجود عطش شديد لمعرفة ما وراء الستور، وهو عطش من طبيعة إنسانية لا علاقة له بجنس أو دين معين، ولكنه ربما لدى العرب أكثر إلحاحا بسبب لعبة الكر والفر بين ما هو للخاصة وما هو للعامة من معرفة وسلطة.

ربما كان من الأجدر، من أجل إزالة كثير من أوهام الخطورة حول بعض المعلومات، هو كشفها وطرحها للعلن، خصوصا أن أغلب الحكومات العربية، بل والأحزاب المعارضة، تتعامل مع الأشياء كلها وكأن الأصل فيها السرية وليس العلنية، وتتوسع، طبقا لهذا الوسواس العارم، دائرة السرية والحساسية، وتصبح صفة "الكتمان الشديد" هي الصفة الأولى المفضلة في كل معاون أو عامل في المجال السياسي، معارضا كان أو مواليا، وليس الفائدة والجدوى السياسية.

توسيع دائرة الإسرار، لدرجة تجعلها تكاد تكون الأساس، له آثار ضارة كثيرة، وتشجع غريزة الفضول الشديد لدى الطرف المحجوب عنه هذه الأسرار أو ما يظن أنها أسرار، لدرجة تجعله يركز على اللحظة التي يقتنص فيها ما حجب عنه، وربما في غمرة هذه الحماسة، يكشف فعلا ما هو سر حقيقي وخصوصية فعلية للإنسان؛ لأن الطرف الذي حجب كل شيء، بحجة السرية، ساوى بين الأسرار الحقيقية والأوهام، فكان من الطبيعي أن يساوي "الغازي" بين الوهم والحقيقة!

العرب، وبالذات أهل الجزيرة العربية، لديهم ولع شديد بالكتمان وعدم البوح السياسي والتاريخي، وفي هذا الصدد أتذكر أمرا ليس له صلة مباشرة تماما بحديث اليوم عن "ويكيليكس"، ولكنه يحيل إلى هذه "الشيمة" النفسية التي نعانيها، وتجعلنا في حالة تعطش دائم وغير صحي، ربما، إلى كشف كل شيء، سواء أكان سرا أم لا، يستحق أم لا؛ لأنه لا توجد درجة كافية من الإرواء الطبيعي بسبب مبالغة أهل السياسة والسلطات كلها في التكتم.

يذكر الدكتور عبد الرحمن العثيمين في مقدمة تحقيقه لكتاب "السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة"، وهو أحد المتخصصين السعوديين بتراث علماء الحنابلة، أن الشيخ محمد بن عبد الله بن مانع (توفي 1291هـ) وكان زميل المؤلف الشهير محمد بن حميد المكي، صاحب كتاب "السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة" (توفي 1295هـ) كان أكثر علما ومعرفة بالتاريخ من ابن حميد: "إلا أنه لم يؤثر عنه تأليف، شأن كثير من علماء نجد - رحمهم الله - يؤثرون التدريس والوعظ والإفتاء على التأليف".

وفي كتابه "تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان" يذكر المؤرخ العماني الشهير نور الدين السالمي أن "أهل عمان لا يعتنون بتدوين الأحداث التاريخية لذاتها وإنما تأتي عرضا في سير الأئمة ومناقشة القضايا الدينية كالأحكام وغيرها". كما ينقله عنه الباحث طارق نافع الحمداني في كتابه "تاريخ الخليج العربي ومصادره في العصر الحديث".

المزعج أن ثمة مصادر وثروات أرشيفية هائلة تتعلق بالتاريخ والسياسة والدين والمجتمع ما زالت طي الكتمان والغبار، حتى الآن، تتعلق بتاريخ العالم العربي والإسلامي، لم ينقل، غالبها، إلى الجمهور العربي أو على الأقل طلبة العلم منه وأهل الاختصاص، يكفي التذكير ببحر الأرشيف العثماني الهائل، وهو الأرشيف الذي يذكر الباحث المختص فيه سهيل صابان أنه الأرشيف العالمي الذي يتناول تاريخ الدولة العثمانية من نشأتها (669هـ - 1299م) إلى انقراضها (1342هـ - 1942م). ويعتبر ثالث أكبر أرشيف في العالم من حيث كمية الوثائق التي يضمها، وقد تم تصنيف 35% فقط من مجموع وثائقه التي تبلغ مائة وخمسين مليون وثيقة. وجزء كبير من هذه الوثائق الهائلة تتناول البلاد العربية من العراق والشام والجزيرة العربية ومصر والشمال العربي الأفريقي.

دوما يظل هذا الشوق الإنساني للمعرفة، وهو سر عظمته وتميزه، الحرب كلها في التاريخ بين من يعرف ومن لا يعرف، من يملك ومن لا يملك. من الإنسان الأول إلى الإنسان الأخير: جوليان أسانج.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف