استعذاب الكلام في السلام

داود الشريان

واشنطن تخلت عن دعوتها الى تجميد الاستيطان اليهودي في الأراضي الفلسطينية المحتلة. إسرائيل اعتبرت الموقف الأميركي نصراً يصب في مصلحتها. السلطة الفلسطينية رفضت هذا الموقف، وربطت المفاوضات بوقف الاستيطان. سورية اعتبرت أن الاستيطان قضية جانبية، وأن المسألة - من وجهة نظرها - هي عودة الأرض، ويجب عدم ربطها بالاستيطان. مصر كانت، وما زالت، تعتبر أن إثارة الاستيطان تخلق إشكالية في التسوية، وتتحاشى جلبها الى المفاوضات. هل تسيّس العرب الى درجة أن مواقف بعضهم صارت تتشابه مع مواقف إسرائيل، على رغم اختلاف المنطلقات؟

القضية أبعد من التسيّس. فخريطة الطريق التي راهن عليها الفلسطينيون وبعض العرب، وضعت تجميد الاستيطان في بندها الثاني. لكن هذا البند أصبح يواجه رفضاً من دمشق والقاهرة، فضلاً عن تل أبيب وواشنطن. فالعرب غرقوا بالسلام باعتباره حالة جدلية، وليس تعبيراً عن موازين قوى. وتحوّل السلام، من وجهة نظر بعضهم، الى معركة كلامية. لذلك استعذب قصة التقليل من خطر المستوطنات. لم ينظر اليها بصفتها تغييراً للوقائع على الأرض، وممارسةً ضد القانون الدولي، بل تعامل معها باعتبارها مجرد حجة لتجميد المفاوضات. وبعضهم استهوته التخريجات الفلسفية، واستخدم رفض التركيز على الاستيطان كوسيلة لإحراج إسرائيل، لكن الذي حدث هو العكس.

لا شك في أن إسرائيل سعيدة بحساسية المصريين إزاء توقف المفاوضات بسبب الاستيطان. وسعيدة أكثر بموقف دمشق بالنظر الى قضية المستوطنات عبر مقياس الأولوية، على رغم أن المسألة مجرد خديعة، كما وصفها عضو الوفد الفلسطيني المفاوض، نبيل شعث، الذي قال: "مللنا أن نذهب الى مفاوضات تستمر إلى الأبد بينما المستوطنات تلتهم الأرض التي نريد تحريرها، ونحن لا نقبل لأشقائنا العرب أن يقبلوا لنا هذه الخديعة". لم يقل أحد من الفلسطينيين، من المتقدمين او المتأخرين، ان الاستيطان هو "جوهر المفاوضات"، لكنهم يدركون تماماً أن لا تسوية في الأفق، فأضعف الإيمان التمسك بوقف الاستيطان، الى أن تتضح الصورة.

الأكيد أن قضية المستوطنات أوجدت خطاباً سياسياً عربياً جديداً. هي أدخلت العرب الى مزاد السلام، فأصبح بعضهم يتعامل مع القضية باعتبارها "مكلمة"، يقاس الانتصار فيها بقدرة صائب عريقات على الوصول الى وسائل الإعلام. هذا تحول خطير.